الجمعة، 8 يونيو 2012

حكايات من القرية : دعوة والد


دعوة والد
قام ببناء بيت كبير ، لعله يكون مأوى لأبناءه العشرة عندما يتزوجون ، هذا البيت كان يعجّ بالحياة والمرح ويفيض حباً وحيوية لما يحويه من شباب ، وكانت داره مأوى للغرباء ، والضيوف لكونه إماماً لجامع القرية ، يقصده الناس من جميع أرجاء المنطقة للرقية الشرعية من مختلف الأديان فضلاً عن بعض الزوار من المحافظات الأخرى .
ثقلت عليه الأيام والسنون ، وتوالت عليه الأحداث الجسام ، وكأن القدر قد صبّـها عليه صبّـاً ، فقد أحد أبنائه في الحرب العراقية الإيرانية وفقد الثاني في حادث سير عند ذهابه للبحث عن أخيه ، أما الابن الثالث فقد قتل وهو يحاول اجتياز الحدود العراقية هرباً إلى سورية ، هاهو يواري جثامينهم الثرى بشهر واحد  ، ويحس كأن الدماء قد توقفت في عروقه ، وان روحه في جسده بدأت بالانحسار من بين أعضائه رويداً رويداً ، وخالطه حزن عميق وشعور مبهم ، نتيجة فقد ثلاثة من الأولاد في شهر واحد .
تزوج ابنه الأكبر من ابنة عمه فطلقها بخلاف إرادة والديه ، وبعد عدة أشهر اختار امرأة مطلقة ولديها ولد من غيره تسكن مدينة الموصل ، وأصرَّ على الزواج بها برغم مناشدة والديه له واعتراضهما على هذا الزواج ولكنه مضى باجراءاته فقبلا على مضض لأنهما لا يريدان إغضابه وقد فقدا أبنائهم الثلاثة قبل أشهر عدة ، وسبب الاعتراض كان انها من بيئة غير البيئة القروية ولعدم انسجامها فكرياً وثقافياً مع عاداتهم العشائرية وحياتهم القروية الصعبة ، فمثل هذه المرأة لا تستطيع احتمال الحياة وقسوتها في مثل هذه البيئة فضلاً عن عدد الأسرة الكبير .
انزوى الابن في غرفته التي تقع في زاوية من زوايا البيت الكبير الفسيح ، حاول الأب جاهداً أن يتصدى لزوجة ابنه لكنه لم يستطع، خرج الابن من بيت أبيه وكأنه خرج من نفسه ، حمل متاعه والأب يصرخ به وينادي عليه لا تذهب بعيداً عني فالبيت واسع علينا وعليك ولكنه لا يسمع النداء فقال الأب له: بروا آبائكم تبركم أبنائكم ، ستصبح في يوم من الأيام أباً مثلي ولن يستجيب لك أبناؤك واسأل الله أن يكونوا شراً منك .
كانت الدموع تسيل على خديه من عينيه ، وتتحدّر على لحيته البيضاء ، فلا يقدر ماكان يعانيه الشيخ من الألم إلا من أصيب بمثل مصابه .
لا استطيع أن أصوّر كل ماكان في ذلك اليوم ، فلو رأيتم مشهد الشيخ وهو يخرج مهرولاً ، لقد وقف في وسط الباب وهو يتوسل بولده بعدم الذهاب بعيدا عنه .
لم يشعر يوماً بالسعادة ، ولم يشعر بالأمن والطمأنينة ، بعد هجر ابنه له وكان يخشى أن يطول أمد الفراق ، ويتعود احتمال الواقع المرير .
ولفعل الابن هذا هجره الأصدقاء ونأى عنه الأشقاء ، وجفاه كل صديق ، حتى اقرب الناس إليه ، وابتلعه الفقر ، وطغت عليه الحاجة والعوز فلم يستطع الإيفاء برغبات الزوجة  الكثيرة والمتعددة .
خرجت من البيت كعادتها في حالات الخصام وهو يحاول أن يمنعها من السفر وهي ترتدي أفخر الثياب وأجملها ، وتحمل بيدها حقيبة سفرها تاركة الأولاد في البيت .
واجتاز المصلين الخارجين من المسجد وهو يهرول خلفها ، محاولاً ثنيها عن السفر ولكن لا جدوى لا تلتفت إلى  توسلاته فاستقلت سيارة وسافرت إلى مدينة الموصل وهو ينظر إليها والألم يعتصر قلبه .
فقد أهمل وقصر في تربية أبنائه ، فكانت النتيجة على غير مراده ، وكان دائماً يردد العين بصيرة واليد قصيرة .
كان الصراخ دائماً يملأ البيت فلا يقدر على لجم جماحها فقد التي أحبها كثيراً ، ولا يستطيع أن يردها في قول أو فعل مخافة أن تقوم بهجره وتسافر إلى أهلها .
فشدت عليه وثاقها ، والجمته بقيدها فلم يستطع إلا أن يسير خلفها ، هذا الرجل الذي يملأ حديثه المجلس عبقاً،  وأنساً ومرحاً ، مذكراً الناس بالله عزوجل ، وداعياً إياهم إلى التمسك بسنة نبيه ، فإذا ماتقدم المصلين ليؤمهم في الصلاة أبكى سامعيه ، وأحسوا بخشوع ، وتدبروا آيات كتاب الله من خلال قرأته ، فهو يصورها تصويراً رائعاً بنغمات صوته الجميل وحسن أدائه ، وبراعة إلقائه للموعظة ، برغم قلة علمه فقد أثقلت الحياة ظهره ، وأشغلت الزوجة قلبه ، والأبناء فكره ، بكثرة مشاكلهم ،وعدم طاعتهم إياه ، وتركهم دراستهم ، وعدم تمسكهم بدينهم اقتداءاً بأمهم وأخوالهم .
كان يشكو ألم الغربة في بيته ، ويحن إلى أيام البيت السعيدة التي قضاها في كنف أبيه ، اكتسح الشيب رأسه ، فقد اتزانه فكان يخرج خارج القرية ويسيح في مروجها وبين أشجارها وهو يضع طرف ثوبه في فمه ، وهو غارق في همومه وآلامه يحدث نفسه فهو يتصارع معها ، ويصرخ بها ويحدثها عن زوجته وأبنائه ، ثم يعود إلى القرية من جديد ، وقد هدأت روحه وسكنت نفسه واطمأنت ، وكان دائماً يردد ويقول : رجل مفتون أصابته دعوة والد ، فمن رآه حسب أن عمره فوق الستين وهو لم يتجاوز الأربعين بعد ، سرى إليه المرض الذي لم يشعر به فنحل جسمه واصفر لونه .
لم يخطر على باله ألبته المصير المؤلم الذي ينتظر أسرته وبنيه ، في أحد الأيام ألقت الشرطة القبض على ولده الأكبر وهو يتعاطى الحبوب المسكرة وقد صور له الشباب فيلما وبثوه في إرجاء القرية عن ولد إمامها ، كيف انحرف ؟ طار الخبر على ألسنة الناس ، سمع ماقيل أسرع إلى البيت وهو يرجو أن يكون الخبر كاذباً، فلما تيقن صحته لم يتمالك نفسه أن بكى ومرت عليه ليال بطولها لم يذق فيها طعم النوم ، وفتش بين القبور عن قبر أبيه ، ثم وقف عليه ، وأشاح برأسه صوب القبور الأخرى وأحس أن قلبه يتمزق فأحنى رأسه حياءاً  وخجلاً وهو ينعى أباه ويقول : ليتك كنت حياً يا أبي لترى ماذا فـعل الأبناء بي لقد أضاعوا مجداً وتاريخاً عبقاً بنيته فلم استطع أن أحافظ عليه فانهار أمام ناظري .
هـَدّه هذا الأمر وسرى في جسده كالنار في الهشيم ثم تبعه الثاني ، اشترك مع عصابة في تزوير العملة الأجنبية وسرق المحلات التجارية وأودع السجن أيضاً، فلم يستطع أن يقف على قدميه وسقط على الأرض أي فؤاد يستطيع أن يخفق بعد هذا الأمر الجلل ؟ لقد توقف قلبه للحظات ، وتم نقله إلى المستشفى وبعد فحوصات كثيرة تبين أنه مصاب بمرض السرطان في حالة متقدمة فأقعده المرض في سريره ، فلم يمض إلا أشهر عدة حتى فارقت روحه جسده ، فتألم أهل القرية كثيراً على فقده لمحبتهم إياه وحسن عشرته لهم وسمو أخلاقه الكريمة لقد كان يفيض عليهم حباً وعلماً ومرحاً ، غادر هذه الدنيا وترك خلفـه ذكرى نيّـرة تشع نوراً ، وعطراً زكياً يفوح بين أرجائها  .

* * *




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق