السبت، 5 يناير 2013

الزاهد في الدنيا


الزاهد في الدنيا
اعتاد أحد الإخوة من الأغنياء أن يراسل أخاه دائماً مذكرا إيًاه بواجبه تجاه دينه وأمته ودعوته ومزهدا له في الدنيا وعدم الانجرار خلفها ، وعدم الإقبال عليها ، والارتماء بين أحضانها وحثه على الإكثار من الطاعات ، وترك الكثير من المباحات ، والعمل في سبيل نشر هذا الدين ، وإعلاء كلمة الله على أرضه ، وتذكيره بأن الوقت هو أمانة في عنقه فاعتبرتها من باب النصح والإرشاد ، ومن باب التذكير واستنهاض الهمة ، وتكررت منه  مثل هذه الرسائل ، وكان في كل لقاء بيننا يكرر كلامه هذا ، كان يتمتع بقدرة هائلة على الكلام فإذا ما أطلق لسانه رأيته يتحرك ويفتح فمه ويحرك لسانه وكان المعاني هي التي تبحث عنه والألفاظ هي التي تخرج من بين شفتيه ، فإذا ماطُلب منه أخوه مالاً لطلابه أو مسجده ، أو لفقير في الحي اعتذر وأكثر من الاعتذار ووصف حاله بأن الحقوق كثيرة والواجبات متعددة ، وهو مُصر أن يعيد على أسماعه في كل مرة يلقاه بها ،  اشترى ( الغني) ذات يوم بيتاً في أحد الأحياء الراقية من مدينة الموصل بمبلغ كبير جداً ، ففرح له ، وذهب لتهنئته وتمنى له الخير كثيراً ، ولم يتمنَ يوماً أن يكون له بيتٌ مثله أبداً ، وهو يتكلم معه مزهداً إيّاه في الدنيا ، أخذ الأخ يجول بناظريه على أثاث الدار وعلى سيارته الفارهة  وعلى مكتبته العامرة وعلى .... شعرَ أن كلامه هذا بدون ذوق أو لطف أو كياسة وكأنه تأنيب له وربما هو ضحك على الذقون ، نزل من داره ماشياً وهو يفكر في ما قاله أخوه ، وفي أحدى اللقاءات  بينهما كرر ( الغني) كلامه ، فوقع في قلب الأخ أنه يريد بقوله هذا تأنيبه ، فانفجر في وجه أخيه قائلاً له : أي دنيا تحثني على تركها ، وتريد مني أن لا أتكالب عليها ، فأنا لا أملك سيارة فارهة, ولا أملك داراً، ولا أملك رصيداً في البنك ، حتى ولا حذاء جديدا أو لباساً جديداً لي ولأطفالي ... ولكني أملك رصيداً كثيراً من الدائنين ، الدنيا عندك في قلبك وفي يدك ، فأنت من اشترى بيتا بنصف مليار دينار ، وتملك سيارة حديثة فارهة ، وأثاثاً فاخراً ، أنت جُلَّ وقتك تقضيه في عملك المهني ، فضلا أن لديك متجرا كبيرا ومكتبا للاستيراد والتصدير الذي يدر عليك ملايين الدنانير في كل الشهر ، فجل وقتك يا أخي تقضيه بين الوظيفة والمتجر والمكتب ولا تعطي الدعوة إلا فضل وقتك ، كم من أخ استقبلته في دارك ؟ وكم منهم تزوره في مرضه ، أو تقضي عنه دينه ، وكم من اخ تهنئه بمولود جديد رزقه ، فمن منا هو المتكالب على الدنيا ياترى ؟
اتق الله يا أخي وذكر نفسك التي بين جنبيك ثم ذكر الآخرين .
 وأنا جُل وقتي أقضيه في مجال التربية والتعليم والدعوة ، فحياتي كلها دعوة إلى الله ، وإذا ما قي لي متسعٌ من الوقت خصصته لكتابة كتاب أو بحث أو مقالة أو قضاء حاجة مسلم فمن منا ياصديقي حريص على الدنيا وجمع مافيها أنا أم أنت؟
فبيتي من اللبِن والطين ، والسقف من خشب عليه طين أكلت الأرضة نصفه وأخشى أن يسقط على عائلتي لذلك هجرته واستأجرت داراً غيره ، إن مشت عليه هرة ارتجّ واضطرب وسقط الغبار من سقفه ، وإن نزلت عليه قطرة من مطر سقطت على أرض غرفه يقع في زقاق حقير جدران فنائه مهدّمة وحقيرة .
هل تريد مني أن أنام مع أطفالي في مغارات الجبال أو آوي إلى حرم أحد المساجد مع عائلتي حتى أكون زاهداً في الدنيا ، وإن كنت سكنت في بيت المسجد الصغير من قبل لسنوات طوال حتى ضاق علي وعلى أسرتي .
عندما يقدم العيد أنت تتفنن في الإعداد له وأنا لا استطيع أن أشتري لأطفالي ملابس العيد ، في يوم العيد أجهش ولدي بالبكاء لأنه لم يجد ثوباً أنيقاً أو حذاءاً جديداً أو مالاً فائضاً ، وقال لي يا أبتي كيف أخرج للناس في يوم العيد بثوب بالٍ وجيبٍ خالٍ ؟ وهو ينظر إلى الناس وهم مسرورون فرحون بالعيد ، فأخذ يصرخ ويبكي وتشنج تشنيجاً مؤلماً ، فظننت أن قد أصابه شيء ووثبت إليه واحتضنته وعاد يبكي ويعول ، فقال بصوت مختنق بالبكاء : لم تقدم لنا ماقدم الآباء ؟
 قلت له : أقسم إني لا أجد شيئاً أقدمه لكم ياأولادي ، ولقد تمنيت أن أشتري لكم هدايا العيد وأفرقها عليكم أو مالاً وعذري أني معلمٌ في مدرسة ابتدائية وإمامٌ وخطيبٌ لجامع الحي ، ليس عندي مال ، ولكن عندي الحب الذي أهبه لكم وعندي عواطف قلب الأب الرحيم المشفق عليكم ، فاقبلوا هذه الهدية الصغيرة مني يا أبنائي ، هديتي لكم في مثل هذا اليوم حبي وعطف قلبي وهذه الهدية هي أجمل ما يقدمه الأب لأبنائه في مثل هذا اليوم .
هذا هو أصل البلاء ، وشر الشقاء ، وهو التبذير الجنوني ، يقابله الحرمان المميت ،  أين قضيت عطلة العيد ؟ فأنا قضيتها في الدار ، وأنت قضيتها في أجمل المصايف ، أنا لم أستطع أن أقدم لهم اللحم في هذا اليوم وأنت قضيته في تناول أطيب المأكولات من منا ركن إلى الدنيا ياصاحبي؟
الادعاء وحده لا يكفي ، ولكن العمل هو الفيصل في هذا المجال والذي أتمناه منك أن لا تحثني على الزهد في الدنيا لأني زاهد فيها بل مجبر على الزهد فيها ، بل حثني على أن أجد لي عملاً ثانياً كي أوفر العيش الكريم لأبنائي واستعين به على طاعة الله وأن يكون عصباً للدعوة إلى الله ، وأنت تتنعم بالملذات وتنام على فرش الحرير ، مستريح الضمير مطمئن النفس إلى إنك قمت بواجبك تجاه دعوتك وإخوانك وهل تعتقد إن الإلحاد والمناهج الهدامة تقاوم بالشعارات الكاذبة .

* * *




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق