هل كذبت عليَّ المدرسة ؟
قرأت لعلي
الطنطاوي كتيباً صغيراً تحت عنوان " رسالة الى ابنتي " فأحببت ذلك الرجل
كثيراً وأعجبت جدا بأسلوبه وما أن عثرت على مقالة له في إحدى الجرائد لا أذكرها
لدى أحد الأصدقاء إلا وقمت بنقل نص المقالة وأخذت أرددها مع نفسي بين حين وحين وهو
يصف حاله أن المدرسة زودته بسلاح ولكن هذا السلاح كما يصفه : " من ( طراز
قديم ) لم يعد يصلح اليوم في معركة الحياة ! ولقد خدعته المدرسة وكذبت عليه ،
وصورت له الحياة على غير حقيقتها .
قالت له المدرسة : (العلم خير من المال ، العلم يحرسك
وأنت تحرس المال) فرأى أن المال في الحياة خير من العلم ، العلم لا يُنال إلاّ
بالمال ، فلو أن شاباً كان أذكى وأنبه الناس ، وكان مفلساً لا يملك أجور المدرسة
وأثمان الكتب والثياب ، لما قُبل في جامعة ولا حصّلَ علماً. والعلم لا يُثمر إلاّ
بالمال ، فلو أن أعلم أهل الأرض كان مفلساً ، يفكر في خبزه من أين يأتي به وبيته
كيف يستأجره ، لما بقي له عقل يفكر وذكاء ينتج ، ورأى أن أصحاب الأموال الجاهلين
تُبيحهم الحياة أجملَ ما تملك من متع ولذائذ ومجد وجاه ، والعلماء الفقراء محرمون
من كل شيء. نعم ، إن المدرسة كانت تكذب عليه ! ([1]) .
في فترة الحصار على العراق من القرن الماضي كنت حينها
أدرس في الدورة التربوية التي أقيمت في مدينة الموصل ، والتي امتدت لأكثر من سبعة أشهر
، لم يكن لدي مايكفيني من المال وليس عندي سكن فيها لذلك قسمت أيام الأسبوع
الدراسية الخمس ، فكنت يوم السبت أبيت في بيت أحد الأصدقاء والأحد في بيت أحد المعارف
والاثنين في بيت أحد أقربائي والثلاثاء
أعود فيه الى أهلي متغيباً عن الدوام يوم الأربعاء ، بعد أن أقوم بالتسوق لكشكي
الصغير في القرية الذي أبيع فيه بعض الحاجيات الصغيرة .
أما أهل القرية كان معظمهم يعمل بتهريب البضائع ، فقد أخذ المال يسيل في يد
أحدهم حتى أنه لا يستطيع عَدّه أو معرفة ماعنده من مال ، وبدأ بعضهم يحتقر الآخرين
ويستغل حاجتهم لأغراضه الدنيئة ، رأيت المال يوضع في صندوق الطمامة في قريتنا يحمل
بين يدي الصبية في الأعراس لينثر فوق رأس صحاب المزمار ، وكان قريبي الذي كنت أبيت
عنده يضع النقود في صندوق الطماطة ووضعه في الدولاب فإذا مافتح الخزانة تساقطت رزم
العملة منه فيقوم بإعادتها الى مكانها من جديد ، وكان كثيراً مايحاورني حول دراستي
ويأخذ بالاستهزاء من المتعلمين لأن رواتب الموظفين كانت متدنية جداً ، وكان يدخل أحد
أبناؤه الى الغرفة ويفتح الخزانة فتتساقط رزم النقود فيحمل منها مايشاء ثُمَّ يخرج
دون أن يعرف أبيه ماذا سيفعل بها ، ولكن هم الرجل الأول هو جدالي وكسر عزيمتي عن
مواصلة تحصيلي العلمي وإثنائي عن مواصلة دراستي ، وكنت أعاني منه كثيراً ، ربما في
بعض الأحيان أكثر من معاناتي من فقري وحاجتي الى مثل هذه الدنانير المكدسة .
في أحد الأيام
نفد ماعندي من مال ولايوجد لدي أجرة الباص كي أذهب بها الى المعهد فقررت السير على
قدمي وخرجت من بيت قريبي القاطن في حي في
أطراف المدينة ، أسير باتجاه منطقة النبي يونس أحمل في يدي كتاباً أحاول أن أحفظ
مافيه وأحياناً أخرى أكرر مقالة علي الطنطاوي مردداً مع نفسي : صدقت ياعلي
الطنطاوي ، نعم . إن المدرسة كذبت عليَّ ، فكان أبناء القرية يمرون من جنبي في
سيارتهم الفارهة التي اقتنوها من التهريب ، ليتهكموا عليَّ ويقولون: لازلت تدرس
الى الآن ؟. دون أن أوقف أحدهم لأركب معه في سيارته ، وكأني أسير من أجل أن أحضر
درسي لأنه لدي امتحان ، لا من أجل فقدان أجرة الباص .
وإني لأعجب اليوم كيف لم تمتد يدي الى هذه الرزم من
النقود المجهولة العدد ؟ وكيف كنت زاهداً بها بل محتقراً لها ولأصحابها لأني كنت أظنها
من السحت الحرام ، وكأن الأمر أصبح مقارنة بين العلم والمال ، وأيهما أجل وأعظم ،
فاخترت العلم على المال وحزمت أمري وسرت بطريقي وأنا أضحك من عقولهم القاصرة ، ولا
التفت الى أقوالهم أو أفعالهم أو يغريني لمعان ذهبهم أو جمال سيارتهم الفارهة ، وأردد
في نفسي ويل لهولاء القوم ، حجب الذهب أبصارهم عن رؤية الحقيقة ومعرفتها . نعم سرت
في طريقي وهمتي عالية لاتلين أمام الصعاب ، ولا تحجمها الصعاب مهما عظم شأنها ،
فلم أجزع ، ولم أتألم ، ولم يدخل اليأس الى قلبي ، سرت مرتاح الضمير ، أعلل نفسي
بالآمال ، وأمنيها بالأمنيات التي أصبحت حقيقة ، برغم ماكنت أعانيه من فقر وحاجة .
وماهي إلا سنوات قلائل حتى تمر الأيام وتنقضي وتتبدل الأمور
والأحوال ، وإذا بقريبي هذا يقدم اليَّ ومعه ولده ، يطلب مني أن أتشفع له ( أتوسط)
في التربية من أجل أن يعمل فيها موظف خدمة في مدرسة القرية ، فقلت له : ياعم أين
ذهب صندوق النقود ؟ وأين ذهبت تلك الرزم المجهولة العدد ؟
قال : ذهبت حيث ذهبت . وما أن انصرفا إلا وهرعت الى
مقالة الشيخ علي الطنطاوي واستخرجتها وقلت : نعم إن العلم خيرٌ من المال ، صدقت
المدرسة ياشيخ علي الطنطاوي هذه المرة .
ثُمَّ ليقوم هذا الولد في الآونة الأخيرة ببيع الأرض التي
ورثها عن أبيه ، فشيد بثمنها داراً حديثة ، واشترى سيارة فارهة ، وأخذ يستعلي بها
عليَّ وعلى الآخرين من جديد ، كما فعل والده (رحمه الله) من قبل ، وذلك لأن داري من الطين والسقف من خشب
، أكلت حشرة الأرضة نصفه ، وأخشى أن يسقط على عائلتي ، إن مشت عليه هرة ارتج
واضطرب ، وسقط الغبار من سقفه ، وإن نزلت عليه قطرة من مطر ، سقطت على أرضيته ،
يقع في زقاق ضيق ، جدران فنائه مهدمة وحقيرة ، وأما غرفه فالرطوبة بادية فيها الى
ارتفاع متر ، وأنا انتظر هل يكون تصدق معي المدرسة من جديد ؟ أم أردد مع الشيخ علي
الطنطاوي : " كذبت عليَّ المدرسة ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق