بـغـداد والتـتـر
بغداد والتـتـر صنوان متلازمان ، بغداد والتـتـر حبيبان لا يفترقان ، ذهب زمان ، وجاء زمان وبغداد في كل زمان تستقبل لها تتراً جدداً تختلف الوجوه والوجوه ، تتغير الهيئات والهيئات تختلف الأديان والأديان ، ولكن الوجهة واحدة هي عاصمة الرشيد ، فهذا هولاكو يقطع المسافات والفيافي والقفار، ينشر خلفه الخراب والدمار ، ويسفك الدماء ، ويحطم العمران يزحف بجيوشه إلى زهرة المدائن بغداد ، ويدخل هولاكو بغداد سنة 656هـ /1258م واستباح بغداد وأحرق المكتبات ، ورمى الكتب في نهر دجلة ، ودمر المدارس والمستشفيات ، ودمر الطرق وقنوات الري ، وقتل خلقاً كثيراً من الرشيد فقتل جميع من قدر عليه من الرجال والنساء والمشايخ والأطفال والشبان .
فقصة الخليفة كانت مأسوية ، وقصة العلماء كانت مأسوية وقصة العامة كانت مأسوية ، وما آل إليه مصير الخونة كان مأسوياً أيضاً . إنها مأساة ولكنها من فصل واحد .
فقاوم أهل العراق المغول في مختلف مناطقه من شماله إلى جنوبه فوجد المغول أنفسهم أمام أمة لا تقهر وحضارة لا يمكن التغلب عليها . فأخذوا يتأثرون بها وأشهر عدد من سلاطينهم إسلامهم والزموا أنفسهم وأتباعهم بما يفرضه الإسلام على معتنقيه من واجبات وتسمّوا بأسماء المسلمين وتزيّوا بزيّ المسلمين .
وعملوا وفق نظم الإدارة السابقة دون تغيير وأبدوا تسامحاً مع ثقافة أهل البلاد وسمحوا بإعادة المدارس والمساجد وانسحبوا من بغداد سنة 1335م فدام احتلالهم للعراق أكثر من نصف قرن فعادوا إلى ديارهم من جديد ، ولكنهم قد اعتنقوا الإسلام حاملين معهم كتب المسلمين وقرآن المسلمين وأسماء المسلمين بعد أن دمروا مادمروا .
فبغداد بقيت تبث إشعاع العلم إلى الدنيا رغم ما أصابها من تلك النكبة ، وبغداد بقيت عصية على أعدائها ولم تنهزم في عقيدتها في دينها في منهجها في سلوكها بل من احتلها هو الذي انهزم فتغيرت عقيدته وتغير دينه وتغير منهجه وتغير سلوكه وتغيرت أسماءه فمن المنهزم ياترى ؟ ومن المنتصر ؟ بغداد أم التتر ؟ فيالقدرك يابغداد كلما جاء هولاكو في كل زمان ، انبرى له ممن يحسب على أبنائك ، ليبيعك بثمن بخس وهو فيك من الزاهدين هذه مصيبتك يابغداد كم من بشر تحتضينه وتأويه وتطعميه من أرضك ويستظل تحت سمائك ويتنفس هواءك ويأكل من طعامك ويشرب من مائك ، ويحسب على أبنائك لكن ولاءه وحبه إلى شعب غير شعبك والى أرض غير أرضك ، والى لسان غير لسانك ، فإذا ما مات لم يجد أرضاً تقبره غير أرضك ولم يجد تربة تأويه غير تربتك فأنت له كالأم المشفقة تضمه بين حناياها فما أحنك وما أشفقك يابغداد حتى على أعدائك ([1]).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق