لماذا حكايات من القرية
لا أدري ما الذي يحملني على تذكر الماضي ونبش كل ما فيه من حكايات بعيدة أو قريبة مفرحة أو محزنة ؟
وما الذي يغريني بأن أكتب عنها ؟ هل هو الحنين إلى تلك الأيام الخوالي ، أيام الطفولة والصبا وأيام الشباب الأول تلك الأيام التي مضت بمسراتها وأحزانها بأفراحها وأتراحها ، والتي لم يبق منها سوى هذه الذكريات التي طالما حاولت جاهداً أن أنساها ولكن دون جدوى .
كانت منها أيام مشرقة أشرقت معها نفسي وحداها الأمل بمستقبل زاهر مشرق وأيام مظلمة أظلمت معها نفسي فكلما أردت نسيانها لا أستطيع ، هي ذكريات الصبا والشباب وأحلامي التي بنيتها ورويتها بعرق ودمع وسهر ليال .
وأنا أحاول أن استشرف المستقبل من خلالها ولكن دون جدوى ، رأيت أحلامي تنهار أمامي في تلك القرية كأنها بيت من ورق صف صفاً محكماً فسُحبت منه ورقة فانهار هذا البيت أمام ناظريَّ فدخل اليأس مسرعاً إلى نفسي وحطم كل ما في قلبي من أمل وطموح ورؤية لمستقبل زاهر كان يلوح بين ناظريَّ قبل وقت قريب ، فأخذت ألتقي كل من حولي بابتسامة مشرقة تحببني إلى الناس أَسعدُ بها ويسعدون وأهرب بها من خيبة أملي وشقائي بأمل جديد كاذب ضائع لعله يأتي.
كنت أخرج مع أصدقائي إلى حقول القرية وبساتينها لنتحاور ونتجادل في أحلامنا التي تمثل حياتنا وكل واحد منا يصور مجموعة من الصور في مخيلته يرسم فيها ويصورها تصويراً فنياً مبدعاً كأنه كاتب قصة أو رواية فإذا جنَّ الليل وقفنا في طرف القرية على مكان مرتفع ننظر إلى وسطها ننظر إلى مجرى الماء الذي تنساب المياه فيه بكثرة في أيام الأمطار فنهرع ونتدحرج وسطه ونلهو ونلعب ، وكنا نسميه بويب ونحن نشبهه بنهر السياب الذي كان يحن إليه في قصائده .
وكنا نتساءل ونقول كيف لمن طاف أرجاء الأرض وزار المدن الكبيرة من لندن وباريس وبغداد ودمشق وبيروت والقاهرة وغيرها من مدن الأرض ، كيف له أن يحن إلى نهر آسن أو إلى قرية من طين وقصب ؟.
لا أعرف لِماذا كل هذا الحنين إلى تلك الذكريات ؟ وإلى ذلك النهر الآسن ، وإذا بنا اليوم نتمنى أن تكون لنا تلك القريحة الشعرية لنسجل بها تلك الذكريات كما فعل ونسطر في حب قريتنا أجمل القصائد ونكتب كل ما كان فيها من أيام وحوادث وقصص وحكايات .
إني لا أنسى قريتي وبيوتها الطينية وبساتينها ولا أنسى ذلك الزقاق الضيق الذي يؤدي إلى بيتنا ولا أنسى بيتنا المتواضع لأني عشت فيه أجمل أيام حياتي ، وقبرت فيه سعادتي مع بيعه .
إني لأنظر اليوم إلى جدران القرية فأراها لم تتغير وذكرياتي كذلك , ولكن كل ما بها من أحبة وأصدقاء وأقرباء وأخلاق وعاداتٍ وطبائع قد ذهبت ولم يبقَ منها إلا القليل .
إني لا أصدق أن هذه الذكريات الجميلة وهذه الأيام قد مرت مسرعةً مرور الرياح ، إنها حياتي ذكرياتي طفولتي أليست الحياة أياماً وذكريات ؟.
فكلما رجعت إلى تلك الأيام تلوح أمام ناظريَّ كأنها أزهار ورياض تنتشر وتغطي كل أرجاء القرية وجدرانها وقد يقول قائل : هلاَّ عدت إلى حاضرك واستمتعت به ونسيت تلك الأيام فالزمن لا يعود إلى الوراء ؟ وكيف له أن يعود وقد تغير كل ما حولك فأصبحت تنكره وتحسس كأنك غريب بين أحبتك ؟ .
فيا أيتها القرية : هل تستطيعين العودة بي إلى زمنك الماضي وأهلك الطيبين ، وهل أستطيع أن أعود أدراجي إلى طفولتي وأحبتي ؟ وأن يتوقف الزمن فيك لحظات ؟ وأن أقف معه فاسأله هل تغيرت القرية أم تغير ساكنوها ؟ فالجدران ماثلة أمامي والسكان لا زالوا فيها فمن الذي تغير ياترى ؟ أنا أم الجدران أم البشر أم الذكريات ؟.
تلفتوا حولكم واسألوا عن ذلك الزمن من تعرفون من شيوخها ، ستجدون في عيونهم عبرة وفي قلوبهم حسرة وعلى السنتهم جواباً واحداً : رحم الله تلك الأيام لقد كانت ماكانت .
لحظات أتمنى أن تطول وأن أقف فيها كسائح يقف أمام أجمل المناظر فهو لا يجتازها حتى يقضي منها وطره .
هذا ما أتمناه ولا أدركه فكل ما نظرت إلى القرية القديمة أراها شبه خاوية خربه من تلك الأيام الجميلة التي لا يحفل بها أبناؤها ولا يذكرون أجمل ما كان فيها من ذكريات فكأني كنت في حلم انسابت فيه حوادث الزمن فلما استيقظت نسيت ما كان فيه إلا القليل منه ، أنساني طول الزمن والبعد عنك ياقريتي كل شيء جميل حتى لم أعد أذكر إلا القليل من الذكريات التي نحتت في ذاكرتي فلهذا أنا أنبش وأفتش عنها وأدونها كي لا يطويها النسيان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق