الخميس، 7 يونيو 2012

الدموع الكاذبة


الدموع الكاذبة
إن  الحسد لا يؤذي صاحبه فحسب ولكن خطره يتعدى إيذاؤه إلى الآخرين ليحرق في طريقه كل القيم ويلغي كل الأعراف والتقاليد محرقا صاحبه بناره .
أثناء الحصار على العراق كانت مدينة اربيل ودهوك والسليمانية خارج سلطة الحكومة المركزية وكان سكان المنطقة المجاورة لهذه المحافظات الثلاث يمارسون ( التهريب) بكافة أنواعه ولا سيما المشتقات النفطية والأدوية والمحركات والسيارات والنحاس والألمنيوم وغيرها إلى هذه المحافظات الثلاث  ويهربون منها إلى بقية العراق السكائر الأجنبية والألبسة والفواكه والحلويات والبسكويت وبعض البضائع الإيرانية والتركية الأخرى .
في هذه المنطقة كان  يسكن( حامد ) وكان  صديقه وابن خالته وشقيق زوجته ( قاسم ) يعملان  سوية في تهريب السكائر وبعض البضائع الأخرى من مدينة اربيل إلى مدينة الموصل وكركوك ، ويقومان  بتهريب المشتقات النفطية بصورة معاكسة من مدينة الموصل وكركوك إلى اربيل . فقرر( حامد ) في نفسه أن  يؤذي ( قاسم ) حسدا من عند نفسه ، فبعد أن  علم أن  صفقة من السكائر قد جاءت من اربيل إلى دار ( قاسم ) وأنه سوف يقوم بتهريبها إلى مدينة كركوك صباحاً، ولكون ( قاسم ) يمتلك أكثر من سيارة حِمْل ( بيكب) ، فأراد ( حامد ) أن يتأكد في أيّ السيارات سوف يضع ( قاسم ) حمولته ، وبعد أن علم موضع إخفائها بصورة جيدة تحت بدن السيارة ( البودي ) الخارجي المغلف من الحديد ذهب (حامد ) ليلاً إلى دائرة الأمن وأخبر السلطات الأمنية أن ( قاسم ) سوف يقوم غداً بتهريب السكائر إلى مدينة كركوك بسيارته المرقمة(كذا) وعاد إلى داره.
وفي الصباح ركب عمّ ( قاسم ) السيارة نيابة عنه لغرض زيارة شقيقته في مدينة كركوك ، فطلب منه ( قاسم ) أن  ينقل حمولة السكائر معه ولكنه رفض أول الأمر فاخبره قاسم أن لا أحد يعلم بوجود السكائر في السيارة ، ولا سيما أن  السيارة تحمل عدداً من النساء في ( البودي ) ، سار ( العم صباح ) بالسيارة فلما وصل السيطرة الأمنية أوقفته وبعد أن  فتشوا السيارة لم يجدوا فيها شيئاً .
 قالوا له : انزل لنا النساء وافتح لنا بدن السيارة ( البودي ) فلما فتحوه وجدوا السكائر مُخبأة فيه فألقوا القبض عليه، فأودع ( العم صباح) السجن وصودرت السكائر والسيارة معاً مع فرض غرامة مالية عليه وحكم عليه بالسجن لمدة شهر ، تحرك ( قاسم )  بسرعة على أصدقائه ومعارفه في الأجهزة الأمنية التي كانت تتقاضى منه الرشوة بين فترة وأخرى ، لكي يعرف عن من قام بالإبلاغ عنه فتعرف على الخبر وإذا به ابن خالته وصديقه وصهره ، جاء ليلاً مع والدته ( خالة قاسم) وأبلغا عن عملية التهريب وبعد أن دفع( قاسم ) مبلغاً من المال للأجهزة الأمنية أودع السجن نيابة عن عمه صباح ليقضي الحكم نيابة عنه.
قضى ( قاسم ) مدة الحكم وخرج من السجن جاء أبناء القرية يهنئونه على خروجه ومواسين له في ماله الذي ضاع بفعل مخبر من بينهم وحاولوا إعطاءه بعض المال للتخفيف من ضرره والبدء من جديد لأن  معظمهم يعمل بالتهريب حالهم كحال ( قاسم ) و( حامد )  .
أخبرهم (قاسم ) أن  من وشى به للسلطات الأمنية  هو صديقه وابن خالته ( حامد )  لكنَّ ( حامداً ) رفض هذا الأمر وقال هذا اتهام باطل وأنا لم أقم بمثل هذا الفعل وان  هذا الأمر ليس من أخلاقه ولا من عاداته وإذا ثبت هذا الأمر فأنا أتحمل كل ما يفرض علي من غرامة من قبل أبناء العشيرة وأبناء القرية .
أثبت ( قاسم ) لأهل القرية ( من أبناء عمومة حامد وعشيرته ) أن  ( حامداً ) هو الذي قام بالإخبار عنه .
هنا تحركت العشيرة وفرضت على ( حامد )  غرامة مالية ـ وهي  أن  يدفع ثمن السيارة وثمن السكائر ـ لـ ( قاسم ) ، ولكنَّ ( حامداً )  بقي على إصراره ، انه لم يقم بهذا الفعل .
وقال : إذا أردتم أن أقسم لكم على القرآن إني لم أقم بهذا العمل أقسمت .
كان  لـ (حامد ) أخ اسمه ( غالب ) صغير السن لم يتجاوز لـ (18 ) سنة ، حسن الخلق طيب المعشر ومع صغر سنه فانه كان محبوباً من قبل الجميع .
قال لأخيه وأمه : لا تقسم على القرآن ، أنت تعرف وأمي تعرف وأنا أعرف أنك أنت وأمي من قام بهذا العمل ، وسوف نتعرض إلى غضب الله سبحانه وتعالى إذا أقسمت على كتابه كذباً وكي لا يلحقني وزركما سوف اذهب إلى دار( قاسم ) واخبره مع أبناء العشيرة المتواجدين عنده الآن  ، أنك أنت من قام بهذا العمل وأنا حاولت أن أردعك ولكنك منعتني وهددتني بالقتل إن  أخبرت أحداً ولا سيما ( قاسم ) وخوفاً من القتل لم أستطع الإبلاغ عن ( حامد )  ولكن الآن لا يردعني رادع عن الشهادة بالحق حتى وان  قمت بقتلي ، أنا ذاهب إلى ( قاسم ) ، وأراد الخروج ولكن حامداً حال بينه وبين الباب وهو يحمل بيده السلاح مصوباً إياه إلى صدر أخيه .
 فقام ( غالب ) بدفع ( حامد ) عن الباب ، خرج ( حامد ) حاملاً السلاح خلفه وأراد قتله لكن أخته منعته وارتمت على السلاح وأعاقته حتى خرج ( غالب )  من الدار ، لكنَّه لم يذهب إلى دار( قاسم ) لينفذ تهديده ، بل ذهب إلى دار صديقه ( محمد) وهناك التقى ببقية أصدقائه وأخذوا يتسامرون ويلهون في دار ( محمد ) .
عَلِمَ ( حامد ) أن ( غالباً )  في دار ( محمد )  فذهب إليه وكانت ليلة مظلمة باردة ممطرة في شهر شباط من عام 1996، وكانت دار ( محمد ) مجاورة لدار( قاسم ) فطرق الباب فخرج ( محمد) إليه قائلاً له : تفضل .
قال ( حامد ) : لا ، شكراً لك ، إن  لديَّ عمل عليَّ أن  أقوم به ولكن هل أخي ( غالب ) متواجد عندك في الدار .
قال ( محمد ) نعم .
قال ( حامد ) :أريده للحظات فقط وذلك لمسألة مهمة ، فذهب ( محمد ) إلى ( غالب )  قائلاً له : إن  (حامد )  في الباب وهو يريدك أن  تذهب إليه .
قال ( غالب ) : لا أريد الذهاب إليه ، إني أخشاه وذلك لحدوث شجار بيننا الليلة لأمر ما وهددني بالقتل ، واني أستميحك عذراً فإني سوف أقوم بالمبيت عندك هذه  الليلة ولن اذهب إلى دارنا .
فضغط عليه أصدقاؤه ليزيلوا هذا الخوف من قلبه ، قالوا له : إنه أخوك ربما جاء ليصلح ماأفسد بينكما ، وتعود إلى بيتك أخرج إليه ولا تخف منه فكيف يخاف الأخ من أخيه ؟.
 فخرج إليه ( غالب ) قائلاً له : ماذا تريد يا أخي ؟ .
قال ( حامد)  : هل أخبرت ( قاسم ) ؟  .
قال ( غالب ) : لا لم استطع أن  أشي بك .
فأخرجَ ( حامد ) رشاشته من تحت عبائته وأطلق النار على أخيه وأرداه صريعاً في الحال وولى هارباً إلى داره .
سمع أهل الدار والجيران  والقرية أجمعها صوت إطلاق الرصاص فخرجوا مستعلمين عن الأمر وإذا إمام باب دار ( محمد ) (غالب ) مضرجاً بدمائه ، وكان  قد فارق الحياة وإذا بثلاث طلقات قد استقرت في رقبته .
هرع ( حامد) مع بقية أبناء القرية إلى مكان  الحادث فرأى أخاه صريعاً وأخذ يصرخ ويبكي ويضرب بقوة على خديه وشق جيبه وحثى التراب على رأسه وهو ملقى فوق جسد أخيه ويدعو بالويل والثبور لمن قام بهذا العمل الإجرامي وانه سوف ينتقم ممن قام بهذا الحادث الأثيم .
فقام على قدميه وقال : إن  الذي قام بقتل أخي هو  ( قاسم ) لأنه هو الوحيد الذي لديه عداء معنا ونحن لم نقم بدفع ثمن السيارة له وأراد أن  ينتقم منا ، ففعل فعلته وكما ترون الحادث بجوار داره .
اقتنع كثير من الناس بهذا القول ولكن ( قاسم ) أخذ يصرخ ويقول : والله لم أقم بقتله ولم أخرج من داري وكما ترون أن  لديَّ ضيوفاً في الدار من أهل القرية ومن غيرها ، وهؤلاء ضيوفي شهود عليّ أني لحظة سماع إطلاق الرصاص كنت جالساً معهم في داري ، وخرجنا جميعاً مستعلمين عن الأمر ولم أخرج لوحدي وأنا أظن أن  من قام بهذا الأمر هو   ( حامد )  كي أتحمل الجناية نيابة عنه ، وبذلك يكون قد تخلص مني ومن  الغرامة . 
فقال ( حامد ) : أنت من قام بقتله خرجت من دارك وأطلقت الرصاص ثم عدت إلى الدار أنت تريد أن  تدفع التهمة عن نفسك .
هذه الكلمات سببت شقاقاً بين أبناء القرية فدافع فبعضهم عن ( قاسم )  وبعضهم الآخر كان مؤيداً لـ ( حامد )  بدعواه تلك ، لكون تلك الدموع التي سكبها مع والدته أعمت الأبصار واصمت الآذان عن سماع صوت الحقيقة وكادت أن تحدث مجزرة بين أبناء القرية لولا وصول الشرطة إلى مكان  الحادث ، فحملت الشرطة الجثة إلى الطب العدلي في الموصل وألقت القبض على ( محمد )  وأصدقائه الذين كانوا في داره لكون الحادث وقع أمام باب داره ، وكذلك أودع معهم السجن ( قاسم ) لاتهام ( حامد ) له  ، فيالها من  ليلة صعبة على(  قاسم )  فبعد أن  ضاع ماله وقضى شهراً في السجن إنه اليوم على وشك أن  يفقد حياته على أمر لا علم له به ، وعلى جناية لم يقم  بارتكابها وهاهو مودع في السجن دون أن  يكون له أي ذنب .
وفي اليوم الثاني وبعد أن  عُرضوا على قاضي التحقيق كانت أصابع الاتهام جميعاً تشير إلى ( حامد )  من جميع الذين ألقت الشرطة القبض عليهم لأنه آخر من كان  مع المجني عليه .
 وبعد أن  قامت الشرطة باستدعاء ( حامد )  لغرض أخذ إفادته في الحادث وبعد جلستين من التحقيق اعترف( حامد ) انه هو من قام بقتل أخيه،  لكنه لم يقتله عن عمد لأنه أطلق النار على الأرض لإخافته كي لا يقوم بالاعتراف لـ ( قاسم )  ويفشي سره وسر أمه معه وتقع عليهم الغرامة المالية ، ولكن الرصاصات التي أطلقها على الأرض ارتدت من على الأرض واستقرت في رقبة أخيه واردته صريعاً في الحال ، فخاف فهرب إلى داره ، وأعلم أمه أنه قتل أخاه . ولكنها هدئت من روعه ، وقالت له : لا عليك بعد أن  حدث ماحدث يجب أن  نتهم ( قاسم )  بالقتل أتخسر أخاك ومالك ؟
وأودع ( حامد ) السجن وأخذ أبناء القرية يتوافدون إلى مجلس العزاء ويعزون ( الحاج عمار )  بولديه إذ احدهما في السجن والأخر في القبر.
        قرر أخوة ( الحاج عمار ) وأبناء عمومته وأشقاء زوجته وأبناء عشيرته أن  يقوم بتطليق زوجته وترك ولده ( حامد )  في السجن بل يجب أن  يتلقى أقصى العقوبة له على أفعاله المشينة ، ولكن ( الحاج عماراً ) لم يستمع إليهم ، فقال تلك الكلمات التي لا تزال يتردد صداها في أذني إلى اليوم : إذا طلقت زوجتي شرد أبنائي وبناتي وهذا الأمر عائد لي والمصاب مصابي فلا تزيدوا ما أنا به من الآلام ودعوني وأسرتي ، إن   ( حامد )  يدي اليمنى و( غالب )  يدي اليسرى وقامت اليمنى بقطع اليسرى أتريدون مني أن  اقطع يدي الأخرى وأكون أبتر اليدين والله لن افعل هذا.
وقام بإخراج ( حامد ) من السجن بعد أن  تنازل عنه ودفع مبلغاً من المال للشرطة لغرض عدم إيداعه في السجن ـ الحق العام ـ وهكذا نجى ( حامد ) من فعله المشين ولكنه بقي يعاني من مقت أهل قريته وأبناء المنطقة  له لسنوات ، ولا زالت آثار هذا الفعل باقية في ضمائر الناس وبين الحين والأخر يثار ذكر هذا الحادث الأليم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق