الحصاد المر
كانت روحه ترفرف فرحاً كالفراشة في الحقول فأحلامه التي بناها لنفسه ، أحلام
تسير معه ليس في المنام فحسب بل في اليقظة أيضاً ، فتى بهي الطلعة مشرق الروح
والجبين ، عريق النسب ، محبوب من أبناء قريته ولاسيما من كبار السن فيها فهم
يحترمونه ويحبونه ويجلونه برغم صغر سنه ، شبَّ وهو يسمع حديث الثناء عليه وعلى
أبيه وعلى جده وينادونه بـ( السيد ) لم يستطع أن يتمتع بصباه أو مراهقته كبقية
الشباب فقد أصبح كهلاً وهو لا يزال بسن العاشرة لأنه يحمل تاريخاً عبقاً طاهراً من
الأمجاد وحكايات متناثرة هنا وهناك عن كرامات أجداده القريبة منها والبعيدة ، فأهل
القرية يُجلونه لأجل ذاك التاريخ .
يذهب كل صباح إلى مدرسته في القرية
المجاورة التي تبعد عن قريته زهاء( سبعة كيلو مترات ) وهو يحمل حقيبته التي تثـقل
ظهره من طول الطريق ذهاباً وإياباً كل يوم وهو يسير على قدميه فإذا عاد إلى البيت
امتطى حماره لجلب الماء من نهر الزاب الأعلى وهو يبعد ( خمسة كيلو مترات ) عن
قريته ، وهو في طريق مدرسته وفي طريق النهر يعيش أحلام اليقظة يحلم أن يكون ضابطاً
في الجيش ، ويركب سيارة حديثة بدلاً عن حماره الحرون ، وأن يسكن قصراً منيفاً
بدلاً من داره الطينية الخربة الرطبة ، وأن يشرب الماء النقي بدلاً من الماء الآسن
من النهر ، وأن يسير في أرض معبدة بدلا من الأرض الطينية الموحلة ، فهو يتحدى كل
الصعاب من أجل أن يحقق الأحلام والآمال ،
فتفوق في دراسته فهو الأول بلا منازع ولا يوجد من يستطيع منافسته في تفوقه هذا.
انتقل بدراسته إلى الموصل ليكمل الدراسة
الإعدادية ويسكن في حي من أحيائها الراقية في بيت لأحد أصدقاء أبيه .
وفي الإعدادية التي يدرس فيها ، تعرف
حسن على أستاذ الدين ، إمام وخطيب جامع
الحي الذي يسكنه , بدأ يصلي في هذا الجامع ويحضر بعض الدروس لهذا الأستاذ , انتبه
الشاب إلى أن عدداً من الجيران وسكان الشارع الذي يسكن فيه يرقبونه عند خروجه إلى
الجامع وهم يجلسون في حديقة الحي التي تقع أمام داره كل يوم قبل الغروب ، كان حسن
يضع غطاء الرأس ( العرقجين) على رأسه أغلب الأحيان ، فهو حريص على الصلاة ولاسيما
صلاة المغرب فهو أشد حرصاً عليها من بقية الصلوات ، وحين يمر بجيرانه يسلم عليهم وكأنه
يريد أن يقول لهم إنه شاب ملتزم من تلك العائلة المعروفة بالتدين ، فهو قارئ
للقرآن مقيم لليل , صائم ليوم الاثنين والخميس ، لا يعيش كما يعيش شباب الحي لا
يلهو كما يلهون ولا يعرف الطيش الذي يرتكبون ولا تغريه أفلام الرقص الماجنة ولا
الأغاني الرخوة المائعة , فهو ليس مثلهم انه صاحب دين, فهو مُرآءٍ ولا يعرف أن
تصرفه هذا الرياء بعينه .
نجح في دراسته وأخذ بتقديم أوراقه إلى الكلية العسكرية ليحقق الطموح والأمل
المنشود فدرجاته الامتحانية عالية جداً , وقدرته البدنية عالية ليجتاز كل
الاختبارات بتفوق غير معهود , ظهرت نتائج الاختبارات وقد نجح بها جميعاً وبقيت
التقارير الحزبية والأمنية التي سترفع عنه , فهو مطمئن لأن ليس في سلوكه ما يعيب
أو يشين وليس له ارتباطات بأي جهة حزبية .
وقف أمام باب الكلية ينتظر النتائج
وقد تعلق بصره بباب الكلية ينظر إلى زملائه في الصف والمدرسة يقول في نفسه :
العسكرية رجولة وبسالة وصعوبة فأنا لها ، أنا ابن القرية أمشي حافي القدمين ،
وأنام جائعاً اليوم واليومين , وأسير في الحقل لأسقيه في الليلة الظلماء , وأرعى
أغنامي في الليلة المطيرة ، ولا أخاف الذئاب , أنا الشاعر والأديب ، أنا أولى من
هؤلاء أن أكون طالباً في الكلية العسكرية, أنا خير من هذا المخنث , الذي يلبس
الألوان الزاهية البنـاتـيّة , ويسكن القصور الفاخرة ويخاف انطفاء النور ولا يتحمل
الجوع والعطش والسهر ولا يجرؤ على السير وحده في الليل في الصحراء ، فصفاتي خير من
صفاته ، فكل صفات الرجولة متجسدة فيَّ وليس فيه شيء منها ، إنَّه رخو ضعيف هزيل ,
همه أكلة ، أو شربة ,أو لبسة , أو غايته لذة أو نزوة , كأنه إحدى أخواته , أنا السباح
الماهر أعبر نهر الزاب سباحة في أوج
ارتفاع الماء فيه ، وأنا القناص الماهر الذي أصيد الطير في كبد السماء بإطلاقة
واحدة .
في وسط هذا الحديث الطويل مع النفس، يُـفتح
الباب الخارجي للكلية وتخرج منه
مجموعة فيها أحد الضباط ليلصق عدداً من الأوراق فيها أسماء الناجحين وهو يصرخ
بالمتقدمين ويقول : من وجد اسمه فليدخل
ومن لم يجد اسمه فقد فشل وليعد إلى بيته ، هرع حسن إلى الأسماء وقد قسمت على
الحروف الأبجدية ، وهو يسال الله تعالى أن لا تضيع عليه هذه الفرصة مرة أخرى كما
ضاعت سابقتاها ، ففتش في الحرف الذي يوجد فيه اسمه فلم يجده قال لعلهم اخطئوا فبحث
في بقية الأحرف فلم يجده , وقف ينظر إلى زملاءه في المدرسة ، وقد وقفوا على جنب
وهم يتحدثون , يتهامسون بصوت خفي مخافة أن يسمعهم وهم يرمقونه بنظراتهم , وكأنهم
يقولون له : نحن خير منك أيها الفلاح القروي تريد أن تصبح ضابطاً هيهات هيهات .
هرول حسن إليهم قائلاً: بَـشّروا ؟
قالوا ظهرت أسماؤنا قال : كيف ؟ قالوا
آباءنا من رجالات الحزب ، والمدافعين عن الثورة ، فكيف لا تظهر أسماؤنا ؟
غضِب حسن وكاد الدم ينبـثـق من عينيه
من الغضب وقال كلمات أطلقها على سجيته ودون أن يفكر فيها من قلب ملذوع : كيف ذلك
وأنا أكثر منكم معدلاً ، ونقاطي أعلى ، وتسلسلي أفضل ، وأنا اشرف نسباً ، وأمجد
أباً وجداً؟
يالها من مصيبة وقعت على رأس حسن ، لا
دافع لها ، ولا خلاص منها هاهي أمنيته ضاعت ، وحلمه انهار ، كان يحلم أن يكون
ضابطاً كحال الكثيرين من أبناء قريته ولكنّ هذا الأمل ضاع بين ناظريه وقال في
نفسه: هذه هي مصيبة الأمة ، يقدم من لا يستحق أن يقدم ، إنه الفساد والحزبية
المقيتة لعنها الله ولعن من أتى بها ومن دعا إليها ، إنه فساد الضمير بثوب جديد
اسمه الولاء للحزب والثورة ، فساد شكا منه الطالح قبل الصالح ، والفاسق قبل الناسك
، لماذا كل هذا الفساد ومن أجل من يضيع الوطن ؟
لقد كرر المحاولة لثلاث مرات ، وفي
المرة الثالثة ، كان من سعى بأمره رجل في أعلى المستويات في الدولة بعد ذهاب أبي
حسن إليه لغرض التوسط لابنه حسن وهو بذلك يريد سداد دين أسداه أبو حسن في الماضي
لعائلة هذا المسؤول .
أخذ ينتظر ظهور النتائج وياله من
انتظار مرير ، ويحدث نفسه ماالعمل؟ ماذا
لو لم أقبل هذه المرة كذلك ؟ ماذا لو لم يظهر اسمي ؟ فماذا أفعل ؟ عاش قلقاً
حائراً، دخل فراشه وهاجس الفشل أمام ناظريه ، رأى في منامه أن الأسماء تظهر واسمه
ليس فيها ، انهارت الدموع من عينيه ، دموع تجري جياشة مضطرمة ، وعلت زفراته وكثر
أنينه ، استيقظ من نومه مذعوراً ، يرتجف خوفاً وفزعاً ، فقال : الحمد لله إنه مجرد
حلم والأحلام في بلادي لاتـتحقـق أبداً .
بعد أيام ظهرت الأسماء ، واسمه لم يظهر مرة أخرى في سجل المقبولين في
الكلية من جديد ، هرع حسن إلى المسؤول وأخبره بعدم ظهور اسمه في سجل المقبولين ،
فوعده المسؤول بمعرفة السبب وإن كان سبباً لايمس أمن الدولة ، سيظهر اسمه في
الملحق الذي تصدره الكلية في كل سنة ، بحث المسؤول عن إضبارة حسن فوجدها وقد كتب
على غلافها مرفوض ( التوجه إسلامي ) غير سائر في خط الحزب والثورة .
فتح الإضبارة فوجدها مليئة بالتقارير
السرية عن نشاط حسن ، وقد اتفقت جميعها على كلمة واحدة هي: ( شاب مستقيم الخلق من
عائلة طيبة دينة مشتهرة بالصلاح ، ذو توجه إسلامي ، يرتاد المسجد كثيراً ، ويلتقي
بشيوخه ، محافظاً على صلاة الجماعة ولا سيما صلاة المغرب ، إنه إسلامي ) ، شعر حسن
أن خنجراً مسموما دق بين أضلاعه مع كلمة سمعها ، وأحس كأنه يختنق وكأن سقف الغرفة
قد أطبق على أرضيتها .
أصبح الشاب إسلامياً دون أن يعرف من
هم الإسلاميين ، يُحرم من القبول في الكلية العسكرية لا لشيء إلا لأنه من شباب
المساجد المستقيمين ، ومن المحافظين على الصلاة فيها ، دون النظر إلى عبادته ، إلى
خلقه ، إلى عائلته ، فأخذت أحلام حسن تتهاوى ، كما يتهاوى الصخر من أعلى الجبل ،
ونار الفقر والبؤس ، تحرق قلبه ، كَـرِه النظام ورجالاته ، وهذا الكره في كل يوم
يكبر في صدره ، ولهيب الغيرة تسعر في قلبه ، وسخرية الأقرباء الفاشلين من زملائه
تتهاوى في أذنيه كأنها نار منبعثة تطلق من أفواه الحاقدين .
ياألله بجرة قلم من حاقد حاسد فاسد ،
بجرت قلم من مرتشٍ ، لم يفرق بين المصلي الحقيقي والمصلي المرائي ، تعساً لتلك
الأقلام التي لا تسطر إلا مافيه خبث وتجسس على أبناء جلدتها ، تعساً لتلك الأقلام
التي لا تكتب إلا عن من اتصف بصفات الأخلاق والدين ، وتحلى بالفضيلة والرجولة ،
فتعساً لهذه الأقلام التي أراقت دماء الأبرياء ، وهجرت الأتقياء ، وأضاعت أحلام
حسن ومن خلفها البلاد .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق