الجمعة، 8 يونيو 2012

حكايات من القرية : الابن البار بابيه


الابن البار بأبيه
هَـدّهُ المرض والتعب في عمل الأرض ، وأتعبه ابنيه الأكبر  محمود والأوسط حامد  لعدم طاعتهم له وعصيانهم وعدم مؤازرته في عمله الذي يحتاج إلى جهد عضلي وتحمل للمشاق ، فاستقل الابن الأكبر عن أبيه في بيت مستقل تاركاً الوالد يعاني من فقره مع أخويه وعوائلهم ، وأما الابن الأوسط حامد لا هم له سوى ملذاته الشخصية .
 أما الابن الأصغر  حسن كان محباً لأبيه مطيعاً له براً به لايعصي له أمراً أبداً ، حمل أعباء العائلة بعد مرض أبيه ليعيل أمه وأباه وزوجته وأطفاله فضلاً عن عائلة أخيه الأوسط حامد الذي يكبره سناً ، بدأ يعمل بجد فهيئ الله له أن يزرع أرض أبيه في احد المواسم ليحصل منها على مال وفير ، بدأ بالزراعة بعد استئجار الأراضي من قبل الفلاحين في القرية ليقوم عند جنيه للمحصول وقبض ثمنه بتسليمه لأبيه المريض ويبقي لنفسه القليل من المال الذي يبدأ بالزراعة به من جديد ، ولا ينال لنفسه من هذا المال إلا الفتات القليل .
كان حسن سعيداً في بيته منسجماً مع زوجته موفقاً في كسبه مطيعاً لربه براً بأبيه ، وقفت زوجته ذات مرة أمام أبيه وتقول له انصف حسن فهو الذي جمع المال ، وأخذت بالدفاع  عن حق زوجها  الضائع ، فكان الأب يردد دائماً ويقول : أنت ومالك لأبيك .
بُـحَّ صوتها وكلت قواها ، ولكن دون جدوى ، غضب على هذه المسكينة كيف تجرؤ أن تكلم أباه حول حقه الضائع ، ولعنها ولعن القدر الذي ألقى بها في طريقه ولعن اليوم الذي تزوجها فيه ، نشب الخلاف بينهما وأرادت أن تذهب إلى أبيه فقام بشدها من شعر رأسها حتى أدخلها البيت ليأخذ في تأنيبها على رفع صوتها أمام أبيه .
فقالت : إلى متى تبقى نائم والنار تسري في بيتنا ؟ الكل يعد العدة لما بعد وفاة أبيك ، فسيأتي عليك يوم قريب يُخطف مالك أمام ناظريك من منزلك وستعود إلى عهدك السابق فقيراً تعاني الفقر والعوز ، ولا أحد يمد لك يد العون ، كيف أستطيع أن أفهمك الأمر أيها الرجل الطيب أن من العار أن تستمر في حالك هذه ليس كل البشر بمروءتك وشرفك ونبلك وإيثارك .
طلب منه والده بطردها من البيت ففعل لأنه لايريد إغضاب أبيه المريض ، فكان يقول دائماً : لست أدري من أين أتت بهذه القوة وأي عاصفة من المشاعر كانت تحمل لي هذه الزوجة الطيبة . 
مرت الأيام على هذه الزوجة وهي بعيدة عن زوجها وأبنائها الثلاثة في كل يوم تخرج لتستند إلى جدار بيت أهلها وهي تنظر إلى زوجها وأبنائها الثلاثة الذين يلعبون أمام ناظريها ولكنها لا تستطيع ضمهم الى صدرها وهي تسأل عنهم كل غاد ورائح من أهل القرية كيف هم هل يعانون من مرض ما هل يعانون من الجوع ؟
وكلما كلمه أحد حول زوجته يقول هذا أمر أبي ولايوجد شيء بيدي ، فما أكثر الأعذار التي كان يجدها لنفسه ويبرر فعلته تلك ، وإذا أتى الليل لا يستطيع الرقود في فراشه ثم يؤثر النهوض منه فينزل عن سريره ويأخذ بالسير خارج القرية ليعود في صلاة الفجر فكل من ينظر إليه يعتقد انه يتفقد زرعه ولكنه الحزن والألم على فراق زوجته الحبيبة ، وفي الصباح يعود إلى داره لينام ويخرج في المساء ليمشي بين حقول القرية من جديد هذا دأبه في كل يوم شوقاً وألماً على مافعل بزوجته التي دام فراقه لها ثلاث سنين .
توفي أبوه بعد صراع مع المرض دام لأكثر من خمس سنوات ، وبعد أيام رأى شيئاً عجيباً ، ماكان يظن أن مثله سيقع في يوم من الأيام ،رأى الذئاب تكشر عن أنيابها وتستولي على الحاصدة والساحبة والسيارات وتسوق قطيع الأغنام أمام ناظريه فوقف لحظة يرقب مايحدث من بعيد .
أيقن أن ماقالته زوجته صحيحاً وان أخويه على جانب كبير من سوء الخلق ، اضطر اضطراراً أن يدافع عن نصيبه في مال أبيه ـ الذي هو من كسبه وليس من كسب أبيه ـ فجاء إلى إخوته وحدثهم مبيناً ومذكراً أن هذا المال ماله وليس مال أبيه ، ولكنهما رفضا سماع قوله هذا فقال : إن أبيتما ذلك ، فالنقم بتقسيم المال قسمة شرعية وكل واحد منا يأخذ نصيبه ؟ ولكنهما رفضا ذلك وقالا : ما أخذته في السنوات الماضية هنيئاً لك به وهذا نصيبنا الآن ولا شيء لك به .
وبين لهم أن هذا الأمر لا يقره الله ولا يرضاه شرع ولا يجيزه قانون ولا يقره عرف ولا تستسيغه كرامة إنسان فبعملكم هذا ستنالون الخزي في الدنيا والآخرة .
سرت أفكار شريرة في عقل حسن ماذا يفعل وليس عنده مال ؟ ومتى ياترى يعود إليه حقه المغصوب ؟
بقي ليلته مستيقظاً يتقلب في فراشه وزوجته تحاول تبديد مخاوفه من المستقبل ونسيان الماضي والبدء من جديد سمع نداء الفجرـ الله اكبر الله اكبر ـ  أخذ يصرخ : الله اكبر على الظلم والتجبر ، ثم ذهب ليصلي الفجر في المسجد كعادته ، فلما عاد إلى بيته قالت له زوجته : لكل جواد كبوة ، ولا يوجد رجل لم يغلب في يوم من الأيام يغصب ماله أمام ناظريه  ، وليس العار أن تغلب ياحسن ولكن العار أن تجزع وان ترضى بهذا ، العار هو أن لاتسترجع حقك المغصوب ولا تعاود الكفاح في الحياة من جديد ولقد مرت علينا أيام قبل غنانا أصعب من هذه الأيام وأشد قسوة ألا تذكر فتجاوزناها سوية وجمعنا من المال ماجمعنا .
أجهش حسن بالبكاء ، وأخذ يلعن تلك الأيام والسنوات التي قضاها في بر أبيه ، قالت له زوجته : لا تجزع ولاتندم كثيراً على ضياع المال بل الخسران الأكبر ، فالمصيبة الكبرى أن تندم على برك لأبيك فيحبط عملك وتخسر إيمانك ونفسك وتاريخك العبق  ، ولا تنسى أن للكون خالقاً مدبراً يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة .
قال حسن : لقد هزمت وأصبحت سخرية لكل أهل القرية .
قالت : كلا لم تهزم لأنه لا زالت فيك الأخلاق الطيبة والثبات على الحق فأنت على الحق فاثبت عليه .
فقال : لماذا أعمامي لايجردون ألسنتهم في نصرة الحق والدفاع عنه لماذا يأخذون بالصمت كلما حدثتهم  في ظلم إخوتي لي ؟
قالت : إذهب واطلب نصيبك من أخويك ولاتخجل ولاتذل أمامهما ولاتحن رأسك من ثقل أنظارهما إليك احتراماً لهم ، فانك إن فعلت ذلك أغريتهما بك ، وجرأتهما عليك أكثر ، وارفع صوتك في وجوهيهما طالباً نصيبك ومالك الذي سرقاه أمام ناظريك .
حمل حسن عصاً بيده ودخل مضيف أخيه لمح بريق الكره في كل عين نظر إليها ، كيف لا وقد أبصر هذا الكره وعرفه منهما خلال ظلمهما إياه ،  طلب حقه منهما ولكنهما رفضا إعطائه إياه ، قفز حسن قفزة واحدة وضرب الأخ الأكبر محمود على رأسه فخار وسقط وأردف ذلك بعدة ضربات لينطلق إلى أخيه الثاني فيوسعه ضرباً ، وهو يصرخ بهما كنت حسن الطيب بالأمس ، أما حسن اليوم فسوف ترونه أيها الجبناء ، أخذت الدماء تسيل من رأس وأنف أخيه الأكبر محمود وبدأ يسب ويشتم وازدحم أهل القرية وراء باب المضيف وماكاد يضع احد منهم قدمه داخل المضيف حتى أتته ضربة من حسن أعادته إلى الخلف من جديد .
انبرى رجل وجيه وهو مطمئن إلى وجاهته،  وقال : دعهم يخرجون أما ترى أنهم ينزفون دما سوف يموتون .
فاحتد حسن وكاد الدم ينبثق من وجنتيه من الغضب وكادت عيناه تخرجان وقال : لا حتى يعيدا إليَّ مالي وأرضي التي اغتصباها مني ، وبعد أخذ ورد مع الوجيه خارج المضيف أصر حسن على رأيه وقامت قيامته فتعهد له وجهاء القرية إن أبقاهم على قيد الحياة أن يحصل على نصيبه من إرث أبيه خرج حسن من المضيف وخرج الأخ الأكبر محمود يقفز على قدم واحدة لان حسن كسر له الأخرى و كسرت يده وشج رأسه فضلاً عن إصابات أخرى متفرقة في جسده أما الأخ الأوسط حامد فكسرت أسنانه وأنفه وشج رأسه وكسرت إحدى يديه لأنه كان يتقي بها ضربات حسن القوية .
فأذعن الأخوان لمطالب حسن وقسم الإرث بينهم بالسوية ، ولكن هذا الحادث تسبب بقطيعة لازالت مستمرة ، هذه الحكاية ليست حكاية حسن فحسب بل هي حكاية كل ابن بار في بلاد المسلمين بين إخوة لا يعرفون حقاً إنها أثر من آثار كساد المروءة وانحطاط الأخلاق وسوء الخلق بين الناس .


***





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق