المتحابان في الله
يمتاز
بالفكاهة والمرح وعلى شفتيه ابتسامة لا تفارقهما فهما دائمتا الانفراج ، إذا سار
بين أرجاء القرية وأزقتها يعلم به كل من كان في بيته إنه في الشارع يسير الآن ،
وذلك لامتيازه بميزة يحمل في يده مكورا يضرب به على جدران البيوت التي يمر بها ثم
يصدر صوتا ـ يتنحنح ـ الكل يعرف موعده بعد صلاة المغرب بقليل يذهب إلى مضيف الحاج
متعب ، وبعد صلاة العشاء بقليل يعود إلى بيته من جديد ويفعل في طريق عودته كما فعل
من قبل في ذهابه إذا دخل المجلس ـ المضيف ـ لا يجلس إلا قرب الحاج مصطفى مُقبلاً
إياه قبل جلوسه مرت سنوات وضربت أخوتهما في أعماق الأرض جاء في أحد الأيام ودخل
المجلس كئيب الوجه فاتر التحية ليس كعادته في إلقائها.
وقف فوق رأس
الحاج مصطفى ثم قبله من جبينه قائلاً : مصطفى إني أحبك ، ثم جلس في مكانه ، بعد
برهةٍ من الزمن قام من جديد وقبله مرةً أخرى قائلاً : مصطفى إني أحبك ، ضحك من في
المجلس ظاناً أنها سخرية من سخرياته التي اعتاد عليها ، ولكن هذه المرة نبرةُ صوته وملامح وجهه المتجهمة توحي بأمر آخر
.
قام مرة
ثالثة ليقبل الحاج مصطفى ، فقال له الحاج مصطفى : اجلس يا نايف ما بك ؟
قال نايف :
والله إني يا مصطفى احبك .
أراد الخروجَ
قبل موعده الذي اعتاده في كل مرة خرج إلى باب المضيف ثم عاد إلى الحاج مصطفى
ليقبله من جديد ولكن الحاج مصطفى قام وتعانقا وأجهش نايف بالبكاء ثم قال : أخوي
محالل ماهوب دنيا وآخره ، ثم أردف قائلاً: إني لا أخشى الموت إنه حق ولكن الذي
آلمني شيءٌ واحد هو فراقك يا مصطفى وطفق نايف يرسل القبلات على جبين وعلى خدي
الحاج مصطفى .
شعر كل من في
المجلس أن هذه القبلات هي قبلات رجل مودع وان هذه الدموع التي ذرفها ما هي إلا
آهات رجل مفارق ، رجل كل ما يخشاه اليوم أن يفارق حبيبه الذي أحبه منذ زمن
طويل، خرج إلى باب المضيف ثم عاد ليقف
بوسطه مشيراً بمكواره ـ الذي اعتاد حمله بيده ـ إلى الحاج
مصطفى قائلاً : إني احبك وأجهش بالبكاء مرة أخرى ثم تعانقا من
جديد أبكى هذا التصرف من كان بالمجلس فقال : كل حبلٍ مآله الانقطاع وكل حيًّ مصيره
الممات
.
فقالوا له :
لا تقل ذلك .
قال : يا
جماعة أشعر أنَّ أجلي قريب وأخشى أن لا ألقي أخي بعد يومي هذا وأجهش الحاج
مصطفى بالبكاء
ليقوم باحتضانه من جديد.
فأخذوا يؤنبونه على فعله هذا .
قال : دعوني
أجيش بكل ما في صدري وبكل ما تضطرم به نفسي فاعفوا عني هذه المرة , وهل تستكثرون عليَّ أن اسكب الدمع الغزير من أجل
فراق أخي ، ثم التفت إلى الحاج متعب وقال:
ياأبا حافظ مالنا نكره الموت ؟
ثم التفت
قائلاً لمن في المجلس : استودعكم الأولاد ثم أردف قائلاً أدعوا لي يا جماعة .
دخل
داره وأخذ يطوف بها , ويمسح بيده على جدرانها كأنه مودعاً لها... مرت ساعة قام
بفتح باب السيارة , وجلس خلف مقودها يمسحه بكلتا يديه ثم نزل.
فقالت
له زوجته : ماذا تفعل ؟
قال
الأولاد : ما به ؟ قالت زوجته : لعله مريض , انتظروا أن يناديهم ، فلما رأته
يناديها جاء الأولاد بابا فانفجر بالبكاء ، صرخت بهم الأم اذهبوا من وجه أبيكم ألا
يكفي تعبه طول النهار , انسل الأولاد بعيداً عنه ، وجعل يبكي أحس كأن بكاءه يخرق
قلبه ولم يعد يطيق الاحتمال وثبت كالمجنون
ثم صرخ بهم : تعالوا يا أولادي يا أحبابي.
استلقى
في فراشه ثم قال تعالوا إليَّ ياأبنائي أخذ يقبلهم واحداً تلوا الآخر ويضمهم إلى
صدره ويشم رائحتهم بقوة وهم يضحكون من فعل أبيهم لأنَّهم اعتادوا منه المزاح .
فقال أحدهم للآخر : ماذا به اليوم لماذا يفعل
ذلك لم نعتد منه هذا؟
قال مجيباً على تساؤلهم هذا : اشعر أنَّ روحي
تخرج من بين أظافري استودعكم الله يا أولادي ، ثم أغمض عينيه وعلت أنفاسه ثم هدأت
فخرجت روحه إلى بارئها , لقد رحلت فإذا به
جسد ملقى بلا روح لم يكن يخطر ببال أفراد الأسرة إن هذا الرجل كان قبل قليل مرحاً انه سيموت.
قالت
زوجته يا حاج لا تخيفنا.
فعادت
زوجته تتأمله ولقد مضى عليه الآن أكثر من نصف ساعة وكانت حذره تحسبها إحدى مكائدة
, لما رأته هادئاً ساكناً مدت يدها إليه فحركته .
,
حركوه فلم يتحرك أخذ أولاده الصغار يلعبون على صدره ويفتحون عينيه فهم وينغزون
قدميه ولكن لا حراك أيقن الأبناء انه فارق الحياة علت أصواتهم وكثر نحيبهم فهرعوا
إلى جارهم الحاج حسين ليخبروه ان أباهم قد
مات .
قال
كيف ذلك أنا أموت والحاج نايف لا يموت،
ظاناً أنها سخرية من سخرياتهم التي اقتبسوها من أبيهم .
فلما
دخل عليه وجده ميتاً هرع إلى مسجد القرية لينادي في مكبر صوت المسجد يا أهل القرية
مات الحاج نايف مات الحاج نايف فزعاً لكونه لم يتوقع ذلك .
ذهل
جميع أهل القرية كيف كان ذلك وهو قبل قليل كان يملأُ أزقة القرية مرحاً وصراخاً .،
وكان محبوباً من أهل القرية ولذلك تأثروا بموته تناقلت وفاته الألسن , فسار الناس
إلى داره والمرأة تجر ولداً , وتحمل الأخرى ولداً فيصيح هذا ويبكي هذا , ويجاوبه
بالبكاء طفل ثالث عن يمين الدار وثالث عن
شمالها ، فأصبحت داره تعج بالناس وبقوا ينتظرون شروق الشمس ليدفنوه ، فلما ملأ
الأفق نور الفجر ونشرت الشمس ضيائها قاموا بدفنه .
فلم يبق إنسان في بيت ولم
يذهب أحد إلى عمله , وعلت الأصوات وأكثروا من النحيب ما الذي دفع بهؤلاء الناس
ليحضروا إلى بيته يا ترى , ألا هو الحب لهذا الرجل الطيب .
إنها
صورة من صور المتحابين في الله ، عجيب أمر هؤلاء القوم لا يريدون فراق الدنيا ليس
حباً للبقاء فيها، إنما حباً في لقاء أخوة لهم .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق