الجمعة، 8 يونيو 2012

حكايات من القرية : المتوكل على الله


المتوكل على الله
بعد أن طلق والده والدته قام بتربية إخوته وأخواته الستة بعدها بسنوات عديدة تمكن من الزواج ، وعاش مع عائلته في بيت واحد في قريته ، في الصباح يعمل معلماً لمادة التربية الإسلامية في مدرسة القرية وبعد انتهائه من العمل يتوجه إلى الحقل ليعمل في زراعة أحد المحاصيل الزراعية ، مؤازراً إخوته وأخواته وأمه التي هدها التعب والمرض والآلام معاً .
عانى كما عانى معظم أبناء العراق من الحصار الظالم وما إن  أنهى أحد إخوته تعليمه الجامعي والتحق بالخدمة العسكرية مع أخيه الأصغر إلا ثقل عليه الحمل كثيراً وذلك لان عائلته قد توسعت فأصبح لديه زوجة وثلاثة من الأبناء فضلاً عن عائلته السابقة .
أثَّر التحاق الإخوة في الخدمة العسكرية عليه مادياً كثيراً إذ كان  يجب عليه أن يتحمل مصاريف نقلهم ومصروفهم إذ كان مرتبهم الشهري لايساوي شيئاً فضلاً عن مرتبه الذي كان  لايسد له ثمن الحذاء الذي يلبسه .
وما إن  أنهى إخوته خدمتهم العسكرية إلا وتنكروا له كثيراً ، كان  يجلس في غرفته يقرأ كتاباً في يده إذ دخل عليه أخواه ، فجلس الأخ الأصغر بعيداً عنه شعر الأستاذ عصام أن  شيئاً ما هناك ، فقال مبادراً ليزيل هذا الصمت الذي خيم على جميع من في الغرفة ماذا هناك ؟
 استدار الأخ الأصغر بجسمه تجاه الأستاذ عصام وهو يتحدث بحماسة ظاهرة قائلاً له : انك صاحب عيال ونحن ليس لدينا عيال مثلك ، وما نقوم بكسبه هو أكثر مما تكسبه أنت لانشغالك بالعمل في مدرسة القرية وكذلك تقوم بصرف بعض وقتك في طلب العلم الشرعي أو تقوم بتدريسه لأبناء القرية فضلاً عن اهتمامك بجامعها من خطبة وإمامة ودعوة فيه إلى الله ، فنحن نرى أن  تقوم من الآن  بالاعتماد على نفسك وتخرج من بيت العائلة وتسكن في بيت مستقل عنا كي يشق كل واحد منا طريقه في الحياة بعيداً عن الآخر .
أنصت له الأستاذ عصام ولم يقاطعه ، تركه يتكلم والفرح الغامر يتلألأ بين عيني أخيه السوداوين اللامعتين .
 تجمدت عينا الأستاذ عصام طويلاً ولم تتحركا ، وشعر أن قلبه انفطر وأخذ يرتجف لهول ماسمع ، شعر بأنانية الإخوة التي لم يتوقع حصولها في يوم كهذا ، ولأول مرة يسمع كلمات الأخ الأصغر الذي رباه صغيراً بعد أن تخلى أبوه عنه كانت هذه الكلمات قبل هذا الحوار كالمستحيل عنده في وقوعها منه .
 لم يطل تفكير الأستاذ عصام كثيراً أحس كأن  يداً امتدت لتغتاله ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت وخيم الحزن والأسى على قلبه ، وبات يتوقع منهم كل شيء وأي شيء فوجد لنفسه عذراً أن  يغادر البيت الذي شيده بنفسه من ماله مع مساعدة إخوته له في العمل في إجازتهم الدورية ، لم يعد لبقائه بينهم مبرراً لأن  كل القيم قد انهارت في نظره .
 كان  كلام الأخ الأصغر ثقيلا جداً على الأستاذ عصام  لأنه كان  يأمل أن  يقوم إخوته بمساعدته وان  يقوم بإكمال دراسته بعد أن  فتحت الدراسات المسائية وبعد أن  قام بواجبه تجاه إخوته وأخواته وشعر ان تلك السنوات التي قام بها برعاية إخوته وأخواته ، ضاعت وان ذلك الجهد الذي بذله خلال تلك السنوات كان  هباءاً منثوراً .
حمل أولاده ومتاعه القليل إذ كان لايملك شيئاً فكل ماكان  يكسبه من مال كان ينفقه على الجميع .
 فاستأذن أحد أقربائه الذي كانت داره خالية ، بالسكن فيها ، فوضع المتاع القليل الذي لايملك سواه وليس لديه من النقود مايسد حاجته ، ذهب إلى أحد أصدقائه الذي كان يعاني كما يعاني من الحاجة والعوز ، وأخذ قنينة غاز مستعملة لديه كي يقوم بطهي الطعام عليها ،  لينطلق في حياة لايعرف إلى أين تسير الأمور فيها أو إلى أين هو سائر في هذا الوضع الصعب ، ولكنَّ الأستاذ  كله ثقة بالله انه لا يخذله أبداً وانه سبحانه وتعالى سيقدم له العون ، إيمانٌ شعر به يملأ نفسه ، وشعر أن نور الله ملأ قلبه يقيناً كالجبال الراسيات الشامخات وان الله لا يضيعه وأطفاله وزوجته وأدرك بحدسه الإيماني أن  فرج الله قريب .
وبعد عام من هذه المعانات في قريته ومن مطاردة السلطة له ، وإيذائها ومحاصرتها له في رزقه حيث لم تسنح له فرصة العمل في فترة العطلة الصيفية ليسد جزءاً من حاجة أسرته وذلك لإجباره من قبل المنظمة الحزبية على الالتحاق بجيش القدس المزعوم آنذاك .
وفي تلك السنة هيئ الله له أن  يقوم بالانتقال من قريته إلى قرية أخرى في أقصى الشمال بعيداً عن أهله وأقربائه بطلب من أهلها ، وفي هذه القرية قام أهلها بواجبهم تجاهه ومؤازرته كثيراً .
 فتفرغ الأستاذ إلى درسه وطلبه للعلم الشرعي والى دعوته وأخذ يبث فكره الإسلامي في أرجاء القرية والمنطقة معا حيث أصبحت حياة الأستاذ كلها دعوة إلى الله ، فكان له عدة درس بعد صلاة الفجر والعصر وبين المغرب والعشاء له دروس آخر في قرية مجاورة وفي يوم الخميس بعد صلاة العصر وله درس في جامع الناحية الكبير.
 وكذلك كانت زوجته تقوم بتدريس بنات القرية الإسلام والقرآن  ، فإذا ما ذهب لزيارة صديق تحول المجلس إلى مجلس ذكر ودعوة واستفتاء.
شعر الأستاذ بالسعادة كثيراً ، وذلك بعد أن التحق بالدراسة الجامعية وأصبح في السنة الثانية من كلية التربية المفتوحة بعد أن قام بعض شباب القرية بالتكفل بأجور دراسته ، وبعد أن  توطدت العلاقة مع أبناء المنطقة الذي كان  الموجه الأول لهم في أمور دينهم والمؤتمن على سرهم وأسرهم والمساهم في حل مشكلاتهم .
خفف هذا الأمر كثيراً من معاناته وآلامه السابقة ، وأزال ما في صدره تجاه إخوته الذين تخلوا عنه في سنوات كان  يأمل منهم خيراً فكافؤه غير ذلك .
أخذت الأيام  تمر سريعاً والأستاذ في دعوته التي كانت هي حياته وهي الرئة التي يتنفس من خلالها عبق السعادة ويتحدى كل صعوبات الحياة من خلالها .
جاء الغزو الأمريكي للعراق وتعرضت المنطقة التي يسكنها إلى قصف الطائرات الأمريكية وكاد أن  يخسر أحد أبنائه لولا إرادة الله التي حالت دون ذلك ، خرج أبناء القرية إلى خارج قريتهم متجهين مع متاعهم وأزواجهم وأبنائهم وأثاثهم إلى مدينة الموصل ، وكلما أراد أحدهم المغادرة جاء مودعاً الأستاذ عصام ومستأذناً إياه يقوم بخدمته عارضاً عليه مبلغاً من المال وذلك لمعرفة الناس بوضعه المادي، ولكن الأستاذ عصام يرفض ذلك يقول لهم : مستورة والحمد لله ، ويشير إلى جيبه مدعياً أن  فيه  كثيراً  من المال.
وكانت زوجته تسمع كل مايدور من حوار مع أهالي القرية وما أن  يعود إلا وتأخذ بتأنيبه بعد ذلك قائلة له : ماهو مصيرنا مع أبنائنا أليس هو السير إلى المجهول ؟ لماذا لا نذهب معهم ولماذا ترفض المال ؟
فكان  جوابه لها في كل مرة: إني خارج في سبيل الله تعالى وقد تكفل لمن خرج في سبيله أن لا يخذله إن الله معنا لا تخافي لن يصيبنا أذى وعلي الثبات في هذا الموقف ؟ أتريدين أن  يقال كان  أول من هرب خوفاً على نفسه وعياله ، أين التوكل على الله ؟ وكذلك لا أريد أن  أكون عبئاً ثقيلاً على أحد منهم .
أفرغت القرية بل المنطقة من ساكنيها إلا من بعض كبار السن الذين بقوا فيها عند بعض المواشي أو الأثاث المتبقي لأبناء قريتهم وبعد إصرار كبير منهم قرر الخروج وعرضوا عليه بعض المال ولكنه رفض ذلك مرة أخرى قائلاً لهم : لدي الكثير منه والحمد لله .
سمعت زوجته ماقاله فلما دخل منزله أنبته كثيراً قائلة : أين هذا المال الذي تتحدث عنه أليست هي قطعة نقدية واحدة فئة ( مائتين وخمسين دينارا ) فقط  لاغير لا تفي بنقل واحد منا ـ إذ كانت الأجرة من القرية إلى مدينة الموصل (750) ديناراً  ـ حملت زوجته الابن الأصغر وحمل بعض الملابس في كيس ، وخرجوا إلى الطريق المجاور للقرية والزوجة تتذمر كثيراً من فعل زوجها وهو يُهدئ من روعها وكله ثقة بربه عزوجل إنه لايخذله أبداً ـ حاشاه تعالى ـ  ، مودعاً ماتبقى من أبناء قريته متمنياً لهم السلامة ، وما إن  وقف مع عائلته على الطريق المؤدي إلى القرية إلا وقد جاء ت سيارة فلما رآه السائق توقف وسلم عليه ، إذ أن  الأستاذ كان  معروفاً ومحبوباً من قبل أبناء المنطقة جميعاً فأقلهم إلى مدينة الموصل ، وكان  على الأستاذ أن  يستقل سيارة نقل أخرى حتى يصل إلى قريته .
فلما أراد السائق إيصاله إلى كراج النقل الذي توجد فيه السيارات المتجهة إلى قريته . رفض الأستاذ ذلك ـ لان  ليس لديه المال حتى يستقل سيارة الأجرة ـ ولكن طلب منه أن  يقوم بإيصاله إلى الطريق المؤدي إلى قريته فتم له ذلك .
فلما أراد الأستاذ النزول من السيارة قدم له السائق مبلغاً من المال وقال خذه على سبيل الدين بعد أن رفض قبوله كهبة ولكن الأستاذ رفض ذلك أيضاً مشيراً إلى القطعة النقدية التي في جيبه وقال لديَّ الكثير منه الحمد لله .
نزل مع عائلته من السيارة ووقف على حافة الطريق التي كانت شبه خالية من حركة السيارات منتظراً في أثناء ذلك توقفت سيارة من منطقة مجاورة لمنطقة الأستاذ وقريبة منها ، وكان  السائق يعرف الأستاذ وبعد أن  تصافحا وتعانقا ، استقل الأستاذ سيارة صديقه وانطلقوا .
 قال السائق للأستاذ إذا لم أجد سيارة من منطقتكم في الناحية فاني سوف أقوم بإيصالك إلى قريتك بعد إذنك يا أستاذ فرحب الأستاذ بذلك ثم أردف قائلاً : إن شاء الله سنجد سيارة من قريتنا في محطة الوقود التابعة للناحية .
فلما وصلوا الناحية توجهوا إلى محطة الوقود فوجدوا المحطة فارغة من السيارات إلا من سيارة واحدة هي من القرية المجاورة لقرية الأستاذ ، شكر الأستاذ صديقه على عمله هذا واستقل السيارة مودعاً إياه متمنياً له كل الخير ، فوصل أهله والقطعة النقدية ( 250 ديناراً ) لازالت في جيبه .
بعد ثلاثة أيام تعرضت منطقته إلى القصف وذهب مع إخوته وعوائلهم وأمه إلى ناحية ربيعة مع أطفاله وزوجته عند أخواله ليبقى عدة أيام هناك .
وما إن  أحتل العراق وهدئت الأمور عاد مع إخوته إلى قريته مسقط رأسه ثم قاموا بنقله إلى جامعه وقريته وعاد من حيث خرج ولازالت القطعة النقدية في جيبه فلما دخل بيته تفقد جامعه فلم ير انه قد أصيب بضرر وما نقص من أثاثه شيء وتفقد منزله فلم يجد شيئاً مفقوداً منه .
 وقف الأستاذ منتشياً مسروراً فرحاً بأن الله لم يجعله يمد يده إلى عباده ، ومؤنباً زوجته وهو يقول لها : لماذا أصاب إيمانك الخلل إننا خارجون في سبيل الله  ، والله تكفل لمن خرج في سبيل بالنصر ، أو الأجر الجزيل ، خذي النقود التي اتكلتِ عليها ، ورمى القطعة النقدية ( 250 دينارا ) بوجهها وهو يقول : إني كنت متوكلاً على الله وكان  يجب عليك أن  تكوني متوكلة عليه وحده سبحانه ، والحمد لله أولاً وآخراً ، والاهم من ذلك كله  هو شعوره بالانتماء إلى هذا الدين والى هذه القيم الثابتة والتي ليست مزاجية متشابكة شعر بلحظات السعادة التي ملأت جوانحه وهو يرى العناية الإلهية له ولأسرته فأضاف إلى رصيده المعرفي رصيداً آخر هو التجربة في التوكل عليه سبحانه وتعالى ، التي تذوق حلاوتها ما لم يذق يوماً مثلها أبدا.
 وخرج الأستاذ ليزور أصدقائه وتفقد أبناء القرية فرحاً مستبشراً بعودتهم جميعا وبتأييد الله تعالى له ورعايته إياه .

***











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق