شيخ من القرية
اسمر البشرة
ممتليء الجسم ذو عينين ثاقبتين كأنه يتطلع إلى مستقبل أفضل من خلالهما ، ذو قلب
ساخط على كل القرية ومن فيها ، في مجتمع اعتاد على حب الزعامة والالتفاف حول الزعماء
وتمجيدهم وذكر بطولاتهم الصورية ليجدوا لأنفسهم الحماية والقوة ، في مجتمع يسود
السواد الأعظم منه الجهل والتخلف والاعتداء على الضعيف ، ولا ينتهي الظالم عن ظلم
أخيه حتى يخافه ، نشأ في بيت أبيه الكريم الذي اعتاد على استقبال الضيوف ولم يكن
في يوم يتطلع أن يكون زعيماً أو شيخاً لربعة أراد هذا الشاب أن يؤسس لنفسه مجداً
في هذا المجتمع ولكنه مجتمع يريد من الزعيم أن يكون كريماً سخياً قوياً ذو بطش
وإلا لم يحترمه أبداً ولا يستجيب له ولا تلتزم العشيرة بقراراته التي يتخذها .
رجل ليس له
في كل ماذكرنا من نصيب فهو خلاف ذلك ، فقد اعتاد العيش منعزلاً لا يحب مخالطة عامة
الناس ، لم نره في يوم من الأيام فتح مضيفه أمام أحد من ضيوفه ولا يستقبل أحداً
إلا لحاجة ، ولا يقضي حاجة محتاج من أفراد عشيرته إلا ماندر ، يحب المال كثيراً
حريص على جمعه بخيل في إنفاقه إنها الأثرة قبحها الله من صفة مذمومة ، وضع نصب عينيه أن يتزعم أفراد قبيلته وكان
دائماً يقول : لا بُـدَّ لي من النجاح في حياتي ، ولا اسمح لعقبة من العقبات مهما
كان شأنها أن تقف في طريقي وسعى لبلوغ غايته بكل الوسائل التي يستطيع تنفيذها .
كان حاد
الطبع سريع الغضب شديداً مع عياله وزوجه يتعامل من علو مع الكل وبغلظة متناهية غير
مبالٍ بالمشاعر والأحاسيس وكرامة الإنسان فهو كثير الصياح والشجار ، وكانت أسرته تعاني
الأمرين من تصرفاته تجاههم وتجاه أفراد العشيرة الذين كرهوه كثيراً ، ومن أفراد
أسرته الذين عانوا من ظلمه وبطشه ابن عمه ذلك الأستاذ الجامعي الذي كان يملك قطعة
أرض موازية لأرضه التي استولى عليها قبل عشرات السنين ، وضمها إلى أرضه الزراعية ،
فالطمع سكن قلبه وخالط فؤاده ، ولم يجرؤ الأستاذ بمطالبته بنصيبه من الأرض كل تلك
السنين مخافة بطشه وجبروته ، وان تجر تلك المطالبة بأمور لا يحمد عقباها على
الطرفين ، في أحد الأيام تشاجر مع ابن عمه
الذي لم يحسب له يوماً حساباً ، ولم يكن يوماً يخشاه ، حول نصيب كل واحد منهما في
الأرض الزراعية ، فنشب الخلاف وتعالت الأصوات ، وقال الشيخ مهدداً ومنذراً إياه :
أعدك وعداً صادقا أنَّك ستلقى مني أشد العذاب ، فارتاع لسماع حديثه الارتياع كله ،
وأخذ بالتهديد كل مأخذ ، وكان يخاطبه بلهجة الآمر الناهي ، وقال له : إنك لا
تستطيع أن تنتزعها من يدي ولا أن تفصلها عن أرضي فإذا ما فعلت فاني أعدك أن قبرك
سيكون فيها ، وردّ عليه ( الأستاذ ) بهدوئه المعهود ورجاحة عقله ورزانته : إنك إن
استطعت أن توقف الشمس في كبد السماء ، وان تحول بين الأرض ودورتها ، سأتخلى حينها
عن نصيبي في الأرض ، ومشى الشيخ في طريقه مشية الرابح النشوان يحدّث نفسه ويقول :
أليس من الظلم والغبن الفاحش أن ينتزعها مني ويقل بذلك ملكي في القرية ؟ ، مما اضطر بعض أعيان القرية إلى التدخل لحل
النزاع بطلب من الأستاذ ، وبعد جهود مضنية تمَّ إقناع الشيخ بإعطاء الأستاذ نصيبه
من الأرض ، واتفق الطرفان على ذلك لكن ابن عمه الشيخ بعد أن ذهب إلى داره يبدو أنَّه فكر كثيراً
ولعب الشيطان برأسه ، وقال مع نفسه :إن الأمر مستحيل ، وأخذ يتذكر كيف كان لسنوات كثيرة
يزرعها ، وكم دفع من الأموال من أجل إصلاحها والحفاظ عليها ؟ فـقد بصره قبل بصيرته
، وأخذ الغضب منه كل مأخذ فأصبح لا يرى عدواً له في الدنيا كلها إلا ابن عمه
(الأستاذ ) فلا يكاد يستقرُّ في خاطره وفي فؤاده أنَّه سيفقد الأرض حتى يشعر بجذوة
نار تـتّقد بين جنبيه من الحقد الموجد على هذا الإنسان ، فما كان منه إلا أن ركب
سيارته وهو لا يعلم كيف ركبها وقادها وهو لايعلم كيف قادها وانطلق مسرعاً إلى
الأرض الزراعية ، وفي الأرض كان أعيان القرية يقومون بقسمة الأرض مع ابن عمه(
الأستاذ )، فما إن وقع نظره على ابن عمه الأستاذ ، حتى جَمُدَ بصره واصفرَّ لونه
ووقفت دورة الدم في عروقه وشعر برعدة تتمشّى في أعضائه ، فاتجه صوب ابن عمه (
الأستاذ ) وجعله نصب ناظريه فضغط بقدمه على دواسة الوقود بكل قوة وانطلقت السيارة
مسرعة تكاد لا تلامس الأرض صوب ( الأستاذ ) فصدمه سقط الأستاذ هاوياً على الأرض
فدهسه بعجلات سيارته ، ثم كرَّ عليه راجعاً ليدهسه مرة ثانية ، فرَّ إلى القرية
هارباً ، بقي الأستاذ ملقى على الأرض وقد غطته الدماء ، ولا يعرف هل
هو على قيد الحياة أم فارقها ؟ فمدّ أحد
وجهاء القرية يده إلى يد الأستاذ فراعه أنَّه لم يحركها بل سقطت فظن أنَّه فارق
الحياة ، جسَّ نبضه فوجده حياً فنقلوه إلى المستشفى ليتلقى العلاج هناك ، فتركه
يعاني مايعاني من إصابات في جميع جسده ولم يتشافَ منها إلا بعد سنوات عديدة ،
وبرغم ماحدث لم ينثنِ الأستاذ عن المطالبة بحقه حتى استرده بعد عناء وسنوات من
الضياع والظلم والإيذاء .
ولما عاد
الشيخ إلى القرية كأنَّه أصابته لِمَّةٌ من جنون ، أخرج سلاحه وأراد الخروج من
منزله ولما رأى الناس مجتمعين حسب إنهم يريدون إيذائه ، أطلق النار على أهل القرية
ليصيب اثنين منهما بإصابات خطيرة ، ليودع السجن ويكابد فيه أنواع الأذى واصطلى بنار البغض والحسد الذي أحال حياته إلى
جحيم وأشعل قلبه وربما كان الكثير من أهل القرية من يتمنى أن يبقى في السجن السنوات
الطوال ويتلذَّذُ بآلامه وأسقامه ، ولم يخرج منه إلا بعد أن دفع أكثر من ثمن الأرض
تعويضاً للأستاذ على ما أصابه من ضرر جسدي ومعنوي فضلا عن عودة أرضه إليه من جديد
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق