رجل الأضواء
منذ
أن كنا أطفالاً صغاراً كان ( حمبور ) يحرص
أن يكون في دائرة الضوء ويجلب إليه انتباه الآخرين فإذا خرجنا من المدرسة تشاجر مع
أحدهم ليقال أن فلان اليوم تشاجر وإذا لم يجد من يتشاجر معه قام بضرب أحد الكلاب
الرابضة أمام دار صاحبها بحجر فيخرج إليه صاحب المنزل ليكيله جملة من الشتائم .
فإذا دخلت المدرسة ونظرت إلى جدرانها من الداخل
أو الخارج وجدت اسمه قد نقش عليها ، فلذلك كان يتمتع بشهرة في القرية والقرى
المحيطة بها فكلما سرت في شوارع القرية الضيقة وأزقتها لا بد أن تعثر على شيء قد
كتب اسمه عليه فهو يحب أن تعرفه الناس وأن تتناقل الألسنة حكاياته وان يكون حديث
المجالس في القرية .
شب
ولم نره يترك صفاته تلك أخذ يهرب البضائع وأصبح له اسم بارز بين المهربين ، فكان
المال الذي يجمعه يسخره لغاياته وملذاته وكان لايحرص على إرضاء والديه ، فأخذ
يتردد اسمه في حفلات الغناء التي تقام في ملاهي مدينة الموصل ، ولازال يحتفظ بتلك
الأشرطة السمعية منها والمرئية ويتباهى بها وكيف وضع يده في يد أحدى المطربات أو
الراقصات وهو ينثر المئات من الرزم النقدية على رؤوسهن دون أن يبالي لهذا المال
الضائع ولا يفكر في يوم ما أن يسد بهذا المال رمق جائع أو يكسي به عار أو يواسي به
مريضاً أو فقيراً قريباً ويظن أن هذه الوفرة من المال ستدوم له فهو يحتقر كل من
يقع على طريقه من فقراء قومه وربما في بعض الأحيان يسخر منهم يمر بسيارته الحديثة
المحملة بالدواء الذي كان يهربه والناس بأمس الحاجة إليه أو ببعض المصوغات الذهبية
... والقائمة تطول بانجازاته الكثيرة التي تنخر في جسد البلد دون أن يكون له أي
رادع يردعه لا إيمان ولا خوف ولا ضمير .
وما
إن احتل البلد وانتهى دور التهريب ماذا فعل صاحبنا هذا لابد له أن يبقى في دائرة
الضوء يجلب إليه الأضواء أنشأ شركة للحج والعمرة واسهم في بناء أحد المساجد بعد أن
سرق من المال الذي خصص للمسجد على مرأى ومسمع من جميع أهل القرية ليدخل في كثير من
الجدل الفقهي الذي لايعرف عنه شيئاً ، ولايعرف منهم الأئمة الأربعة فضلاً عن فقههم
ولا يعرف كيف يتوضأ فإذا ماأراد أحدهم أن يرشده للوضوء الصحيح ، قال بصوت يعلوه
التهكم والسخرية من الآخرين :أنا الحاج فلان قمت بالحج كذا مرة واعتمرت تسعة عشر
مرة والآن أنت تريد أن تعلمني ديني ماهذه السخرية ؟.
قلت
له مرة ماذا فعلت بأشرطتك القديمة ياحاج ، قال لي : لازالت لدي إنها تاريخي
وذكرياتي ـ وهو يضحك ـ ثم أردف قائلاً : لو رأيتني وأنا أرقص مع فلانة الراقصة لما
عرفتني اليوم إنها أيام ، وزفر زفرات كلها حسرات على تلك الأيام الضائعة ليس ندماً
على المعاصي التي ارتكبها بل أسفاً على
الأيام الخوالي .
فقلت
: ياسبحان الله لازلت أنت كما أنت منذ الصف الأول لم تتغير إلى الآن فياحاج قل لي بربك متى تعقل ؟ .
قابلني
بابتسامته المعروفة الساخرة وقال : أنا تغيرت أنظر إلى لحيتي وعقجيني وعدَّ كم مرة
زرت فيها بيت الله الحرام ستجد الفرق بين حمبور السابق وحمبور اللاحق وقارن بين
الصورتين ستعرف إننا شخصان مختلفان كلياً في ظاهرنا وليس فيما نحمل من قيم في
باطننا .
فما
كان مني إلا أن قلت له : أنت رجل الأضواء أينما حللت جلبت انتباه الجميع إليك ،
فقد حرصت على الشهرة منذ الصغر ولازلت تبحث عنها .
التف
حوله بعض أبناء القرية واعتبروه المرشد والأب الروحي لهم ، فجعلت أفكر في هؤلاء
الرجال ـ الأطفال ـ المساكين كيف يؤمنون أن مثل هذا الرجل يكون من رجال الله
الصالحين ، وكيف له أن يكون مرشداً لعدم إدراكه بواقع الفقه أو فهمه له فضلا ًعن
عدم إدراكه لأمور دينه .
كيف
لمثل هذه النكرات أن تتصدر اليوم وتقوم بتوجيه النشء الجديد بعد أن أحجم العلماء
عن القيام بدورهم نتيجة الأخطار المحدقة بهم .
كيف
لمن كان ولازال أبعد ما يكون عن الفضيلة وعن الخير ولازال يعيش بالغش والاحتيال
ولازال يوزع الأوهام على العقول ، وكيف لمن اعتاد الكذب والفجور والفساد أن يكون
من دعاة الأمة ؟
فكل
يوم له طريقة جديدة وأكاذيب جديدة ، ومع ذلك يجد لها سوقاً رائجة وتجارة رابحة
ونحن لا نبالي أن يكذب علينا مثل هؤلاء .
هذه
حكاية ( حمبور ) رجل الأضواء التي لم تكملها لأن فصولها وأحداثها لم تكتمل لازالت
مستمرة .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق