الأحد، 8 يونيو 2014

النخلة الباسقة

النخلة الباسقة
قال ابن دريد: سألت أعرابياً فقلت ما أموالكم؟ قال: النخل. فقلت: أين أنتم من غيره ، فقال: النخل سعفها صلاء ، وجذعها غماء ، وليفها رشاء ، وفروها إناء ورطبها غذاء.
        ياله من وصف للنخلة  يكفي أن يستقر هذا التصور في قلب إنسان، فيشعر أنه فرع من تلك الشجرة الطيبة الباسقة المتطاولة ، العميقة الجذور، الممتدة الفروع، المتصلة بالسماء في عمرها المديد ليجد للحياة طعماً آخر ، وليحس بالحياة إحساساً جديداً، وليضيف إلى حياته هذه حياة كريمة، مستمدة من هذا النسب العريق.
يا أيتها النخلة الباسقة ، أنت على شفتي قصيدة ، وفي قلبي الصامت نار تتأجج، لا تكبَّل بالسلاسل والقيود ، والنار في رئتيك لا تغلب ، أذيبها في موقد اللهب أصوغها اليوم نغم  ، ما كنت أعرف أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة وعرس جدول ، والصوت في شفتيك يطرب فهل من حديث يستفاد ؟، وهل من ذكريات تعاد ؟، إن كنت تمدحين القلب بسمو شعوره لك ، وازدياد شوقه اليك ، وعظمة حبه لك ، وكثرة اشتياقه لك فقد غلّظت في الثناء ، وقصّرت في واجب الوفاء ، إن للحياة أسراراً ، وإن لها أخباراً ، فقالوا : هل تحب الجميلة ؟ ، فقلت حبي لها عاصفة ، وشعري لها أحلى خميلة ، والصدر أغلى وسادة ، والعرس درب بطولة ، فحبي لها يخاطب القلوب قبل العيون ، ويستثير من الذكريات  الدفين من الشجون ، تصدر وشوشة خفيفة بأطراف سعفها تلك الوشوشة كأنها همسات يحتفظ بها السامع في ذاكرته بمشاهد تذوب لها الأرواح ، وتكثر بها الأحلام ، ولا يمحوها مرور الأيام ، وتأن لها النفس شوقاً وطرباً الى يوم التلاق .
عروس الأشجار ، طلعها نضيد ، وارفة الظلال ، بأغصانها ترفرف ، بسعفها تشق عنان السماء ، وهي تحمل أوراقها الخضراء وأعذاقها المحملة بالتمر ، سيدة الشجر ، أصلها ثابت ، مفعمة في الحياة ، معطاء ، جذورها ممتدة متواصلة غير منقطعة عميقة راسخة تمتد عروقها شيئاً فشيئاً في أعماق الأرض ، رائعة بمنظرها تسر الناظرين ، مهما ضربتها الرياح والعواصف لاتنحني أبداً ،  لم يعرف عنها يوماً الخنوع أو الخضوع للمغريات مهما تكن ، لقناعاتها أولاً ، ولحبها ثانياً ، شامخة في الصحارى لا تأبه بعصف الريح ولا يخدش الرمال جذعها، بل تزداد قوة أغصانها الجميلة وثمارها اليانعة ، فإذا طلعت شمس النهار ، ازدادت حسناً وبهاءً وجمالا ، يانخلة ليست ككل النخيل ، ياينبوعاً ليس ككل الينابيع ، ياطرية ليست ككل الأغصان ، ياطيبة الثمار ، ياجميلة الازهار ، ياشامخة كشموخ دجلة والفرات ، فقامتك أجمل قامة ليس لها شبيه أو مثيل إلا منارة الحدباء ، ياطيبة كطيبة الأمهات ، يامعطاء كعطاء الحبيبات ، يارقيقة كرقت الوردة ، من يراها من الخارج قوية صلبة ليس كمن يراها من الداخل رقيقة عذبة ، يرى فيها الغنج ، والدلال ، والذكاء ، والخفة ، والفتنة ، تقول رأيها بصراحة حتى وإن كان قاسياً ، لأن المجاملة الزائفة في نظرها غير مجدية وتتناقض مع فطرتها ، لا تكل ولا تمل من المهام الموكلة لها لأنها تعشق ماتقوم به رغم ماتواجه من مكائد ودسائس ومصاعب الهدف هو ثنيها عن خدمة وطنها وأمتها.
يانخلة العراق كيف أصفك ؟، وكيف السبيل إليك ؟، وأنت شامخة شموخ الجبال الراسيات الشاهقات ، يانخلة ليست كباقي النخيل فتنوع أصنافك كتنوع العراقيين ، وطيبك كطيبة أهل الرافدين ، ياحناناً كحنان العاشقين ، يالهفة كلهفة المغتربين ، ياتضحية كتضحية الحسين ، أنت النخلة الباسقة التي تمد ظلالها على جميع العراقيين، أراك بعيدة عني صعبة المنال ، ولكن الذي أغراني بك حلم الزمان عندما كانت الأحلام صادقة ، لقد بصمت على قلبي بصمة شريفة عفيفة نقية عطرة كالنسيم المشبع بعطر مسك كل المساءات الجميلة ، انشري فوقي رداءك الأخضر الجميل وغني حولي بحفيف أغصانك النضرة ، لقد تعبت روحي ، فذهبت ترفرف إليك حيرى واجفة لتقع بين يديك ، أنت من انتصر على رياح اليأس التي دبت في قلبي وغيرتها الى رياح رطبة تمطر الخيرات والحسنات ، وتزرع فيه حب الحياة والثبات ، إنك امرأة ليست كبقية النساء ، امرأة تصنع من عوامل الضعف قوة ، ومن الدمع بسمة ، ومن الأحزان فرحة .
هاأنت كما كنت ، كما ولدت ، صبية نقية شهمة صافية الوجه جميلة العينيين ، هاأنت كما تخيلتك قبل أن ألقاك أو أراك ، وصدقت نبضات قلبي مخيلتي عند رؤياك ، فكنت الوجه الصبوح ، والقلب النابض بالصدق والوفاء والصفاء . كنت بطلعتك البهية كما تخيلتك أحلامي قوية صادقة الإحساس وردية الأحلام ، أيتها النخلة الباسقة. أنت كما وصفت نفسك : واثقة مثل الجنائن المعلقة ، عميقة الجذور مثل عمق الحضارات ، يامن نغفو بحضنها إذا هبت رياح عاتيات ، يامن تعطي الثمار لمن يضربها بالأحجار ، شموخها نور في أحلك الظلمات ، عراقية أنا ، أُمٌ أنا ، ففي ميزاني لايوجد ميزان للأمهات ، أتعلمون من أنا ؟ أنا الخنساء ، وبلقيس ، وليلى العطار ، ونورس ، وسما ، وفي قلبي أحمل حب جميع العراقيات .
ياحورية البحار أنا اليوم في جمالك مبهور ، أخذت بيدي لتريني السعادة في عالمك المسحور ، ياحورية البحار خَطوتِ أمام ناظري بثلاث خطوات ثابتات ، سحرن العيون وأسرن القلوب ، فقال القلب على الفور دونما أن يتردد : حياتي ابتدأت برؤيتك وستنتهي بفقدك ، إنك من كنت أبحث عنها طوال حياتي ، يانخلتي الباسقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق