الخميس، 7 يونيو 2012

يتيم القرية


يتيم القرية
كان  خلف يتمتع بالقوة والشباب تزوج أبنة عمه وتحمل أعباء عائلته وإخوته بعد وفاة أبيه وبعد أن  قام بتزويج إخوته أعطى كل واحد منهم حقه في ميراث أبيهم وقسموا كل شيء بينهم الأربعة .
اعترضت أم خلف على ذلك وقالت : إن  نصف المال أو أكثر هو ملك لخلف لأنه من عمله وكده ولكن خلف رفض ذلك واقرَّ القسمة كما هي .
كان  حريصًا على تعليم ابنه سالم وكان يتمنى له أن يصبح ضابطاً في الجيش العراقي وكلما نظر إلى قوام سالم المنتصب الجميل قال : انه هيكل ضابط .
مرض خلف وأقعده المرض لمدة عام كامل دون أن  يقدم له إخوته أي مساعدة أو عون بل تحملت أم سالم أعباء عائلتها دون أن تطلب من أحدهم شيئاً .
نادى خلف ولده سالم وقبله وضمه إلى صدره وهو يبكي بشدة وأم سالم تحاول أن  تخفف عنه ولكنها تعلم سبب بكائه هي الخشية من المجهول بالنسبة لهذه الزوجة الجميلة الصغيرة وما سيؤول إليه مصير ولده سالم واخواته .
قال : ياأم سالم أظن أن  أجلي قد حان ، عندي لك وصيتان ، أوصيك بهما وأرجو من الله أن  يعينك عليهما .
 قالت : ماهما .
 قال:  الأولى أن  لا تتزوجي فإن  أشقائي وأشقائك سيسعون إلى أن  يزوجوك طمعاً بالأرض والدار فإذا استولوا عليهما فان  مصيرك في الشارع .
والثانية : أن لا تدعي سالم يترك دراسته حتى يكملها ويصبح ضابطاً في الجيش ويحقق أمنيتي ، وأنا أعلم إن هذا الأمر ثقيل عليك ولا تستطعين تحمل أعبائه وأعانك الله عليه .
أمسكت أم سالم يد أبي سالم وقبلتها ووضعتها على صدرها ، وهي تبكي ، وقالت : ياأبا سالم والله لو أبيع ملفعي ـ هو الغطاء الذي تغطي به المرأة القروية رأسها وصدرها ـ لن أدعه يترك الدراسة أبداً ، وأطال الله في عمرك لاتخيفنا عليك صحتك جيدة بحمد الله تعالى ، نم قرير العين ياأبا سالم ، وأخلد أبو سالم إلى نومه والابتسامة تعلو محياه ، وأم سالم إلى جواره فلما استيقظت لصلاة الفجر أرادت إيقاظه لأداء الصلاة فإذا بأبي سالم فارق الحياة .  
أجهشت عليه بالبكاء ثم قامت بإيقاظ بناتها وأرسلت إلى أبيها وأخواتها وأشقاء زوجها تعلمهم بوفاة زوجها خلف ، فجاءوا جميعاً فوجدوا سالماً نائماً في فراشه قام عمه بركله برجله ، وهو يقول له : قم ياثور تنام ، وأبوك ميت فزع الطفل الصغير إذ  كان  في الصف الثالث الابتدائي وهو لا يعلم شيئاً نظر إلى أمه وأخواله وأعمامه وقال ما الأمر ؟ قالوا : إن  أباك فارق الحياة .
انكب سالم على جثة أبيه وهو يبكي ويقول : من لي بعدك ياأبتاه ، غضبت أم سالم لضرب ولدها ولكنها صبرت ، وقال بصوت مرتفع : اليوم ليس يوم خصام .
 وبعد أيام من انتهاء مجلس عزاء أبي سالم ، جاء الأب والإخوة مع أشقاء الزوج إلى أم سالم .
فقالوا : ماذا تفعلين يا أم سالم بعد وفاة زوجك .
  فهمت أم سالم مقصدهم جميعاً وماذا يريدون منها ، التفتت إلى أشقاء أبي سالم ، وقالت : إن  أخاكم لم يمت الآن  وإنما هو قد فارق الحياة منذ عام مضى ، فمنذ إصابته بالمرض لم يدخل إلى دارنا دينار ولا درهم واحد من كده وعمله ، بل كنت أنا من يقوم على علاجه ، فماذا فعلتم لأخيكم الأكبر ، الذي كان  بمثابة الأب لكم ؟ .
ثم سكتت قليلاً وقالت : لاشيء ، اطمأنوا أنا لا انتظر منكم شيئاً سوى أن تدعوني أنا وأولادي ، كي أقوم على تربيتهم وأنفذ وصية خلف في تعليم ولده ، وان أجعل منه ضابطاً في الجيش .
ارتفعت الأصوات ، أخذوا بالضحك وأشاروا إلى سالم ، وقالوا هذا يصبح ضابطاً .
 انتهى اللقاء وهي تعلم أن هذا اللقاء ماهو إلا مرحلة انتقالية لما يريدونه فيما بعد وبعد عدة أشهر عُقد المجلس مرة أخرى وطُلب من أم سالم أن تقبل بالزواج من أحد أبناء عمها مُدعين أنها شابة ولا يجوز أن  تبقى وحدها وإنهم يخشون عليها من ألسنة الناس رضخت أم سالم لمطلبهم وانتقلت بسكنها إلى دار أبيها مع ابنها وبناتها الثلاث ، وابتنت لها غرفة صغيرة من طين ملاصقة لدار أبيها .
استولى الأب والأعمام على القسم الأكبر من الأرض وهي راضية بذلك كي لا يجبروها على الزواج ، مضت السنوات مسرعة أكمل سالم دراسته الابتدائية في مدرسة القرية وكان عليه أن  يلتحق بالدراسة المتوسطة فكانت أقرب مدرسة تبعد عن قريته (10) كم في القرية المجاورة .
أخذت أم سالم تحث أهالي الطلبة الذين أكملوا دراستهم مع سالم لتدريس أبنائهم وهدفها في ذلك أن  يكون لسالم رفيق في دراسته ولكن دون جدوى .
ابتدأ العام الدراسي وضعت أم سالم سالماً على حمار لها وركبت خلفه وسارت به إلى القرية المجاورة وسجلته في مدرستها وباشرت معه تقوم في كل يوم بإيصاله إلى المدرسة وتجلس تحت سورها تنتظر انتهاء سالم من دروسه فإذا أكمل وخرج سالم عادت به إلى القرية وهي تعاني من شدة وضيق في حياتها فضلاً عن أن أهالي القرية أخذوا يهاجمونها لكنها امرأة قوية صابرة ذات موقف صلب من الصعب اثنائها عنه ولا تتغير كثيراً لما يقوله أشقائها وأشقاء زوجها وأهل قريتها لأنها لاتفعل منكراً أبداً .
كلمها والدها فقال لها : ياابنتي تسمعين ماتسمعين من أجل ذهابك إلى القرية المجاورة من أجل تعليم ابنك وهذا شيء جيد ولكن الناس لا تدع أحداً بحاله حافظي على سمعت أبيك وإخوتك .
أدركت أم سالم أن ليس الهدف هو السمعة والمحافظة على الشرف وإنما الهدف هو منع ولدها من إكمال تعليمه فقد مضى أكثر من سنتين ولا أحد يتكلم لماذا الكلام كثر في السنة الثالثة أليس لأن سالماً سوف ينهي دراسته المتوسطة بعد شهرين وهم بذلك يريدون أن  يترك سالم المدرسة .
قالت أم سالم لسالم : يابني إن أهل القرية يريدون أن  يحولوا بينك وبين تعليمك إنهم أعداء لك فاحرص على الانتصار عليهم ولبِّ رغبة أبيك الذي كان  في لحظات النزع يوصي بتعليمك فكن كما عهدك ولا تخيب ظنه بك وظني اذهب وحدك وعد وحدك فأنت الآن  رجل لا تحتاج إلى أحد .
أخذت أم سالم توصله إلى نهاية حدود أرض القرية ولا تتجاوزها ، وتصعد أعلى التل وتنظر إلى سالم حتى يصل إلى مدرسته سالماً ، وتنتظره في حال عودته كذلك ، وتأتي به إلى القرية على مرأى ومسمع من أهل القرية فكان هذا حلاً وسطاً فماذا سيقولون وهي جالسة إمام أعينهم  ينظرون إليها .
أكمل سالم دراسته المتوسطة وهنا بدأ المشكلة الكبرى فعليه أن  يكمل دراسته الإعدادية ومدتها سنتان بعد المتوسطة وعليه الذهاب إلى مدينة اربيل ، وقعت أم سالم في حيرة من أمرها ماذا تفعل ؟
أخذت سالماً إلى دار خالها في مدينة اربيل ، وسُجل في الإعدادية القريبة من سكن خال أمه  .
رأى سالم أن خال والدته لديه عدد من البنات فرفض السكن معهم حياءً لأنه ابن قرية لم يعتد الحديث مع الناس ولاسيما إذا كن بنات مدينة .
أراد سالم العودة مع أمه ولكنها رفضت ولم تسافر إلى القرية لعلها تثنيه عن قراره هذا ، وأخذت أم  سالم تبكي أمامه وهي تذكره بأيام الدراسة كيف كانت تبقى تحت الأمطار وتحت أشعة الشمس الملهبة ، وكيف كانت تتعرض لكلام أهل القرية الجارح ، مذكرة إياه بما كانوا يقولونه عليه في ذهابه وإيابه إلى المدرسة : مرحباً أيها الضابط على سبيل السخرية والاستهزاء .
 ولكن سالماً اتخذ قراراً لا رجعة فيه وهو العودة إلى قريته ، تألمت الأم كثيراً من موقف ولدها هذا ، وأخذت تجهش بالبكاء طوال ثلاثة أيام وسالم رافض للدراسة في دار خال أمه .
لف الحزن دار الخال فأخذت بنات الخال وزوجته يبكين لبكاء أم سالم انتشر الخبر عند الجيران ، جاء الحاج مصطفى إلى دار الخال ، وقال لسالم : لماذا لا تأتي وتسكن عندي فليس لدي سوى زوجتي وهي كبيرة بالسن وسوف تكون غرفتك شبه منفصلة عن داري إذ هي خارج الدار كنت أعددتها للضيوف الذين يزورونني من أبناء القرية وسوف أقوم بتأجيرها لك إذا شئت .
لم يتكلم سالم فقال : الخال وأم سالم : موافقون نظروا إلى سالم ، فقالوا : ماذا تقول ؟ قام الحاج مصطفى بمسك سالم من يده وأخذه رغماً عنه إلى داره وبعد أن أراه الدار وملحقاتها وكيف انه سيسكن في سكن شبه مستقل ، قبل سالم على مضض ، وقال : أنا موافق .
فرحت أمه ولكن جاءها عبء آخر إلى أعبائها الكثيرة وهي أجرة الغرفة وطعام سالم فلم تكن فرحة بهذا الاتفاق .
قال لها الخال : لا تحزني يا أم سالم فأيجار الغرفة عليّ وإطعام سالم سيكون من بيتي بحكم الجيرة فهو ليس بعيد عني فرحت أم سالم وأخذت تدعو لخالها لفعلته هذه .
رفض الحاج مصطفى أن  يأخذ أجرة الغرفة،  فقال : إنه ابن أختي وأسكنته في بيتي .
عادت أم سالم وهي مطمئنة على سالم إنه بأيدي أمينة فأخذ الخال يرعاه فضلاً عن الحاج مصطفى وتقوم بنات الخال بغسل ملابسه وكيها له .
وكانت الأم تزوره بين فترة وأخرى محملة ببعض البيض الذي تشتريه من نساء القرية لتبيعه في السوق فتسد أجرة نقلها ذهاباً وإياباً ومابقي منه تهبه لسالم .
 وإذا جاء سالم في الإجازة أخذ أهل القرية ينادونه بالضابط أيقنوا أن  هذا الشاب وهذه العزيمة من قبل هذه المرأة وإصرارها على الوفاء بوعدها لزوجها الحبيب متحقق لامحالة .
كان  سالم لايشعر ماالذي فعلته أمه فقد باعت سلاح أبيه من بندقية ومسدس وبعض الأشياء الأخرى لتوفر لسالم النقود التي يستعين بها على قضاء حوائجه .
تأثر سالم بأحد الأساتذة الذين كانوا يدرسونه وفي أحد الأيام ، قال الأستاذ كنت طالباً ولكني أعمل أيام العطل لأوفر لنفسي بعض المتطلبات التي قد تكون ليست بضرورية .
 سمع سالم هذا الكلام وتأثر به كثيراً فقال لأستاذه : أنا وضعي كذا.
قال الأستاذ : اعرف ذلك ولكن بدل من نزول يوم الخميس والعودة في يوم الجمعة ، اعمل ياسالم في هذين اليومين وبذلك توفر لنفسك دخلاً إضافياً ولا تخسر أجرة الذهاب والإياب ويكفي في الشهر أن  تزور أهلك مرة واحدة .
عرض سالم على خال أمه في أن  يساعده في مخبزه وأن  يكون أحد الخبازين لديه .
فرح الخال كثيراً لأنه يريد أن  يقدم المساعدة لسالم دون ان يسبب له أي إحراج  وبذلك حسن سالم من دخله الشهري .
أكمل سالم دراسته الإعدادية والتحق بالكلية العسكرية ، وفي أحد الأيام دخل سالم القرية ببزته العسكرية وهو يحمل الحقيبة بيده والعصا تحت إبطيه منتصب القامة يسير بخطوات واسعة كأنه في ساحة العرضات على عادة طلاب الكلية العسكرية العراقية .
سمعت أم سالم زغردة لإحدى نساء القرية من صديقاتها وهي تقول لسالم : مبروك ياولدي مبروك ياابن اختي ...
 جاء أحد الأطفال يركض ليبلغ أم سالم طرق الباب بشدة فتحت أم سالم الباب قائلة له مابك ماحدث لسالم .
قال الطفل ياخاله : جاء الضابط .
عرفت أم سالم أن المقصود ـ بالضابط ـ  ولدها سالم ، خرجت تركض بسرعة متناهية من دارها وأصبحت في وسط القرية اقتربت من سالم والدموع تنزل من عينيها وهي تزغرد .
أدى لها سالم التحية العسكرية وهي تبكي فرحاً بسالم وتزغرد وضع سالم إحدى ركبتيه على الأرض وأخذ يد أمه وهو يقبلها محاولاً النزول إلى قدميها ليقبلهما ، ولكن أمه حالت دون ذلك فأمسكت به من تحت أبطيه ورفعته للأعلى واحتضنته بقوة وأخذت تقبله وهي تبكي فرحاً وسروراً به.
 سار سالم مع والدته إلى دارهما ، وكأنه في ليلة عرسه ، ركضت أم سالم إلى دار أبيها وأخذت بندقيته وأخذت تطلق الرصاص منها ابتهاجاً بولدها سالم الذي سيكون في المستقبل ضابطاً في الجيش العراقي .
أصبحت دار سالم ممتلئة بالشباب الذين جاءوا للسلام على سالم وتهنئته وكذلك النسوة وأصبح دار الجد كأنه عرس لم تشهد مثله القرية من قبل ، وأخذوا يسألون سالماً عن كليته وأحواله وهو يقص عليهم تدريباته فيها .
تخرج سالم من كليته وأصبح ضابطاً في الجيش العراقي ، أرادت أمه أن تزوجه من بعض فتيات القرية فقابلها سالم بالرفض ، فقالت أمه : ألا تريد الزواج .
قال:  لا ، وبعد فترة تبين أن سالماً يريد الزواج من ابنة خال أمه ، وكانت طالبة في إحدى الكليات وكان سالم ينتظر تخرجها كي يبوح لامه بحبه لها ولكن الأم عرفت هدف سالم بطريقة ما ، فتقدمت لخطبتها له ،  وبعد انتهائها من  دراستها تزوجها سالم .
نقل سالم سكنه إلى مدينة اربيل ونقل أمه معه وهي لاتريد الذهاب معه ولكن وافقت بعد الحاح سالم عليها تدرج سالم في خدمته حتى أصبح برتبة لواء في الجيش ، ثم أصبح عضواً في المجلس الوطني ، ثم وكيل لإحدى الوزارات العراقية ، قامت الحكومة بشق طريق إلى قريته التي ولد فيها وابتنت فيها مسجداً ومركزاً صحياً  فهي قرية وكيل الوزير.
هذا اليتيم الذي كان يسخر منه أهل القرية في طفولته أخذ أبناء القرية والقرى المجاورة يفتخرون به ، وإذا سُئل احدهم من أنت ؟ .
يقول : أنا من القبيلة الفلانية وأنا من أقرباء اللواء سالم .
ولم يعد سالم الضابط الوحيد في القرية بل أصبح في كل بيت من بيوتها ضابط والسبب في ذلك لسالم اليتيم فهو أصبح قدوة لأبناء القرية الذين يريدون أن  يكونوا مثله .
كانوا يقبلون بتزكية من اللواء سالم فإذا أكمل أحدهم الإعدادية ذهب إلى عمه الحاج سالم ليقوم بقبوله بالكلية العسكرية أو كلية الشرطة أو كلية القوة الجوية .
فسالم لم يغير حياته فحسب وإنما كان  سبباً في تغيير حياة الكثير من شباب القرية والمنطقة معاً والفضل بعد فضل الله تعالى  يعود إلى أم سالم التي كانت بحق من صناع الحياة فهي لم تخرج ولدها من ظلمات الجهل فحسب بل أخرجت المئات من أبناء القرية والمنطقة من ظلمات الجهل كذلك ، رحم الله أم سالم واسكنها فسيح جناته . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق