المال المزكى
كان الحاج فلاح في كل عام يخرج زكاة ماله وزيادة وهو موقن أن الله يعطيه أكثر مما أنفق ، وكان بيته مأوى للغرباء والمحتاجين ويرعى كثيرا من الأيتام ، وكم من يتيم شبّ ونشأ في بيته ، وفي مجلسه تجد الفقراء قبل الأغنياء ، يتمتع بالخلق الرفيع والكرم فضلاً عن الصبر والحلم ، هذا الكرم الذي يجعله دائماً يعاني من الإفلاس .
كانت لديه فرس عربية أصيلة من سلالة معروفة ، ولها مهر صغير يخرج معها في كل يوم في القرية يركبها أحد العاملين في بيت الحاج فلاح ثم يعود بها إلى اسطبلها من جديد .
استيقظت القرية على صهيل مهر الحاج فلاح المستمر وأخذ الناس يتساءلون عن سبب صهيلها المستمر هذا ، ذهب العاملون ليعرفوا السبب فوجدوا المهر ولم يجدوا أمّه ، أخذوا بالبحث عنها في القرية وساروا خلف آثارها فوجدوها خرجت من القرية .
ذهبوا مسرعين إلى الحاج فلاح الذي كان نائماً فأيقظوه من نومه فسألهم عن السبب فقالوا : إن الفرس سرقت ، قال واثقاً بالله : ماتروح بعيد مزكية .
فاخذوا يضحكون من قوله هذا : ياحاج إن الفرس سرقت ، فرد عليهم مكرراً بقوله : ماتروح مزكية إني اشتريتها من مال مزكى والله ضمن لمن زكي ماله أن يحفظه له ، فالله حافظ مالي ولن تذهب بعيداً ابحثوا عنها في الجوار ستجدونها إن شاء الله .
استمر البحث من بعد الفجر بقليل إلى قبل الظهر بقليل وفي أثناء سيرهم مع الشارع العام الذي يسير مع الحدود السورية وإذا بالسارق على مقربة منها ، وعلى بضعة أمتار بين الساتر الترابي الفاصل بين الحدود وبين الشارع العام ، جالساً هناك يحتسي الشاي وبقي هذه الفترة الطويلة لايعرف الذي يجلس عنده لماذا هو جالس عنده هذه الفترة الطويلة .
فألقوا القبض عليه وعادوا به إلى القرية مع الفرس ، اجتمع أبناء القرية كيف يدخل هذا الغريب إلى قريتهم ويسرق فرس شيخهم إنها تعد إهانة كبيرة في هذا المجتمع البدوي فأرادوا معاقبته ، ولكن الحاج فلاح منعهم من ذلك وقال دعوه .
قالوا : سرق الفرس وتجاسر على القرية .
قال الحاج فلاح : إن الفرس التي سرقت فرسي والبيت الذي تجاسر عليه هو بيتي اذهبوا وأتوا بغداء لهذا المسكين إني أظنه جائعاً ، وخائفاً في آن واحد ، والجائع والخائف لا يعرف كيف يفكر والتفت إلى السارق قائلاً له : اطمئن يُبا ( أي بـُني ) لن يؤذيك أحد أبداً وأنا موجود وأدخله إلى الربعة ـ المضيف ـ وأغلق الباب عليه بعد أن أدخل له الطعام والسكائر .
وقال : أنا ذاهب إلى الجامع لأداء صلاة الظهر إياكم ثم إياكم أن يؤذيه أحد أو أن يفتح الباب حتى أعود إليكم .
كان الجامع ملاصقاً لبيته الذي بناه والده قبل أن يبني قصره الكبير في فترة الستينات ، وله باب على القصر صلى الحاج فلاح الظهر ثم خرج من الجامع وإذا به يعود إليه مرة أخرى .
نظر إليَّ والى أستاذ جاسم إمام وخطيب الجامع وابن عمه الشيخ نواف قائلاً: ألا تأتون وتساعدوني في حلّ هذه المشكلة .
قلنا : الحل بيدك أنت من عليه أن يتخذ القرار المناسب بشأنه ولا أحد سواك ، سوف لن يعترض عليك أحد ، الحرامي حراميك ، وأخذنا بالضحك .
قال : سيروا معي ولا تتكلموا بكلمة واحدة .
فذهبنا معه إلى بيته والناس محتشدة التفت إلى الجمع الكبير أمام قصره وقال ( شنسوي بهذا الولد ) ؟ ـ ماذا نفعل بهذا ويقصد الحرامي ـ.
قالوا : نسلمه للشرطة بعد أن نعاقبه عقوبة شديدة .
وقال آخرون: لابد أن نتعرف على أهله ومن أرسله لسرقة فرسك وكيف عرف بمكانها .
وكثرة الآراء وتعددت ونظر إلينا وكنا نقف على جنب بعيدا عنه، مشى حتى وصل إلينا .
قال لنا الأستاذ جاسم : نحن نعرف ماذا يريد ، يريد أن يقول له إنسان : اعفوا عنه ثم أردف الاستاذ جاسم قائلاً : ياأبا شعلان اعفوا عنه والله سبحانه وتعالى أوصى بالعفو .
قال الحاج فلاح بسرعة وصوت عال : عفونا عنه .
اعترض الحاضرون على كلامنا وتوجهوا بالكلام إلى الأستاذ جاسم قائلين له : لو كنت من سرق منك ، أكنت تعفو عنه ؟
قال : لا ، قالوا : كيف تنصحه بالعفو إذن .
قال الأستاذ جاسم : لأنه شيخ من سلالة كريمة وصاحب دين وهو يريد هذا الكلام أليس كذلك يا أبا شعلان .
قال : نعم كنت أبحث عن شخص يقول لي هذا .
دخل داره ثم خرج منها وقال لأحد العاملين خذ سيارتي واذهب به إلى الناحية ثم استأجر سيارة وأوصله إلى أهله بعد أن تخبرهم بما فعل إني أخشى عليه ولا تعد حتى تسلمه بيد أبيه .
وأخذ أحد الأشخاص يضحك ويقول له بعد أن ذهبوا به :ياأبا شعلان إنك نسيت أمراً مهما لم تفعله بحق هذا الحرامي وهذا لايجوز بحقك ؟
قال هذا الكلام استهزاء وهو لايريد الجد منه ، قال له: ماهو ؟ قال لم تعطه خرجية ( أي مبلغ من المال ) قال لم يكن تحت يدي مالاً لأعطيه إياه ودخلت لاقترض من أهلي فرفضوا إعطائي ، وقالوا : نحن نعلم انك تريد أن تعطي هذا المال للحرامي والله لانعطيك إياه أبداً، وأخذ أهل القرية يضحكون متعجبين من صبره وكرمه وحسن خلقه وثقته برب العالمين أن ماله لا يفقد أو أن يحصل له مكروه انه الإيمان والثقة بالله التي حينما يودعها العبد في مولاه لا يخيب أبداً لأنه توكل على رب الأرباب ومن بيده مقاليد السموات والأرض إن هذا الخلق والثقة بالله هي متوارثة في هذه العائلة الكريمة ، وهي مستمدة من وعد الله ورسوله لمن زكى ماله ، ومن العفو عند المقدرة .
والحكاية التي تليها حكاية أخرى من هذه العائلة وهي عن عم الحاج فلاح الحاج فرحان وثقته بوعد الله تعالى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق