السير
إلى القدر المحتوم
كان فقيراً لكنه كان معتداً كثيراً بنفسه ، يعمل بجد ولكن بالرغم من
عمله هذا الكثير إلا إنه كان محدود الرزق
، كان يظن أن كل الأعمال هي نتيجة تدبير العبد الذي يسعى إلى
مصالحه ، وان كان لايشك بقدرة الله على أن الخير بيده جميعاً ، كانت لديه ثلاث أبقار يرعى
بهنَّ في مراعى القرية ، وكان يأمل خيراً كثيرا
منهنَّ ، أصاب الأرض الجدب ، فأخذ يفكر كيف يحافظ على هذه الأبقار ، فقرر الرحيل
من قريته التي تقع قرب قضاء مخمور إلى قريتنا ، حمل زوجته وطفليه أحمد وسعيد وبعض
الأثاث الذي كان لديه وسار بهم ، وهو يسوق أبقاره حتى وصل إلى قريتنا التي تقع على
ضفاف نهر الزاب الكبير ، لعله من خلال استيطانها يستطيع رعاية أبقاره ، وتمتاز هذه
القرية بكثرة الحشائش فيها فضلاً عن الأشجار التي تحيط بنهر الزاب أو التي تنتشر
بين جداوله ، وسارت الأمور كما هو مخطط لها من قبل الحاج محمد، ومضت اشهر الصيف وأخذت
بقراته تكتنز باللحم فاستبشر خيراً ، وأخذ يعمل في حقول القرية الزراعية ليزيد من دخل
عائلته ويعود لهم في المساء بما يسد رمقهم .
وفي بداية شهر تشرين الثاني خرج رعاة القرية بماشيتها
من ابل وأبقار وأغنام وحيوانات أخرى وانتشرت بين فروع الزاب وبين غاباته لترعى من
حشائشه وعلى غير موعد رأى أهل القرية غيمة كبيرة بعد صلاة العصر غطت المنطقة ولكنها
تجاوزتهم بعيدا فاستبشروا خيرا لأنهم لم يكملوا بعد جمع محاصيلهم الزراعية ، ولكن
تلك الغيمة سقطت على مسافة غير بعيدة منهم فجاءت السيول وأخذت تصب في روافد الزاب
فارتفع منسوبه كثيراً فجاءت المياه مسرعة وأغرقت جنباته وأخذت تحيط بأبقار القرية
وماشيتها ، فهرب الرعاة خوفاً من الغرق ، مخلفين وراءهم ماشيتهم ، أخذ الناس بالتجمهر
في أطراف الزاب علهم يستطيعون إنقاذ بعض ماشيتهم ولكنهم لم يستطيعوا ذلك بسبب ارتفاع
منسوب المياه ، مضت تلك الليلة حزينة كئيبة ثقيلة على أبناء القرية وعلى أبي أحمد
، فلم تستطع القرية أن تنام في ليلتها تلك
فقد هلك كل مايملكون من ماشية .
فخرج يتمشى
بين أزقة القرية مستطلعا حال أهلها وكلما مر قرب بيت من بيوتها سمع عويل النساء والأطفال وآهات الرجال على
ذلك المال الضائع وعلى تعب تلك السنوات الذي ضاع في لحظة واحدة وكأنه حلم .
وما إن بزغ
فجر اليوم التالي إلا وهرع الجميع إلى ضفاف نهر الزاب ورأوا أن ماءه انحسر قليلاً
فعبر قسم منهم عله يحضى ببعض ماشيته التي لم تمت فهالهم ماوجدوه ، إن الغالبية العظمى
غرقت والتي لم تغرق مات من أثر الصراع مع الماء .
وعبر أبو أحمد
فوجد بقراته الثلاث والدماء تسيل من أنوفهنَّ وقد فارقن الحياة ، فهاله مارأى من
منظر فهن جميع مايملك هلك بساعة واحدة فأُتي
من حيث كان يحذر ، فارق الأهل والأصدقاء من أجل هذه البقرات وهاهي غرقت أمام ناظريه
ولا يستطيع أن يرد أمر الله تعالى أو إرادته
إنها إرادة الله التي لا ترد .
غضب أبو أحمد
وعدَّ مسكنه بين قومه هو سبب بؤسه وحظه العاثر فحمل أحمد وزوجته على حماريه ووضع المتاع
وقرر أن لا يسكن أرضاً يوجد فيها من بني قومه أحد اتجه شرقاً وعلى مسافة غير بعيدة
إلى إحدى القرى الكردية المجاورة للقرية التي ضاع فيها ماله وفقد فيها ولده متطيراً
بأهله وبني قومه وحط رحاله في تلك القرية التي لايعرف إلا البعض من أهلها فاستقبلوه
وأكرموه بعد أن علموا ما آل إليه مصير بقراته وولده.
مرت أيام الشتاء عصيبة على أبي أحمد وأم أحمد وما
إن جاء الربيع ، أخذت أم أحمد تنظر إلى نساء القرية اللاتي أخذن بحلب أبقارهنَّ
وهي ليس لديها ماتقوم به التفتت إلى أبي أحمد وأنبته كثيراً وذكرته بما قال له
قومه قبل سفره : إن الرزق عطاء من الله فهاهم اليوم قد خسروا أحد أبناءهم وماشيتهم
.
انتبه أهل القرية
إلى أبي أحمد وفي مجلس آغا القرية قرروا أن
يقدموا له المساعدة فهرع الجميع لمساعدته ، أحدهم يقدم عنزاً له والآخر شاة
والثالث يهب مالاً وإذا بابي أحمد أصبح لديه قطيع من الأغنام ومن والماعز وأخذت أم
أحمد تقوم بحلب ماشيتها ، سر أبو أحمد كثيراً بهذا العطاء وهذه الالتفاتة الكريمة
من هؤلاء الناس الطيبين ، فهذا هو خلق المسلم الكريم الذي يرى جاره في ضيق فيواسيه
ويقدم له بعض ماله .
ولما أتى
موسم الحصاد قام أبناء القرية بحصاد زرعهم واخذوا يقدمون لأبي أحمد الزرع في سنبله
وإذا بابي أحمد لديه بيدر أسوة ببقية أبناء القرية وأخذ يدوس زرعه بالجرجر لإخراج
حبه منه وماتبقى من تبن هو علف لماشيته .
باع بعض
محصوله وجمع مالديه من مال سابق تصدقوا به عليه فاشترى ثلاث بقرات وهو يقول لام أحمد
فرحاً مستبشراً : أنظري إلى كرم الله سبحانه وتعالى وعطائه ورحمته بنا بعد أن عدنا من أفقر الناس أصبحنا أحسن حالاً مما كنا
عليه ، عادت الأبقار ألينا ورزقنا قطيعاً من الماشية وحجرة مليئة بالحبوب وحجرة أخرى
مليئة بالتبن لماشيتنا .
علم أبو أحمد
في نهاية المطاف أن ماأصابه لم يكن ليخطئه
وما أخطئه لم يكن لصيبه وان الأرزاق بيد الله هي عطاء منه وهبه لعباده .
وما إن زالت
سنوات الجفاف إلا وعاد أبو أحمد إلى قريته وأبناء عمومته وهو يسوق أربعاً من الأبقار
مع قطيع من الماشية ، خرج من قريته على حمار يحمل أمتعته وعاد بسيارة حمل كبيرة
تحمل المتاع والحبوب وعلف الماشية .
جلس أبو أحمد
يحدث قومه ماحدث له ، كيف مات ولده وكيف ضاع ماله وقص عليهم كرم إخوانه من الأكراد
وان رابط الدين الذي جمعه معهم هو الذي حفزهم على نصرته وتقديم المساعدة له ومواساتهم
له ببعض أموالهم ، وذكرهم أن رابط الإخوة في الله هو أقوى من رابطة الدم ومن غيره من
الروابط .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق