الجمعة، 8 يونيو 2012

حكايات من القرية : الابن المنتظر


الابن المنتظر
لايمكن للقوة أن تفرض السيطرة على الآخرين ولا أخذها يمكن الاستيلاء عليه من أرض أن يدوم إلى الأبد ، لان الله سبحانه وتعالى وضع ميزاناً للكون ، ودوام الحال من المحال ، ثلاثة من الأخوة , فرضوا سطوتهم على أبناء عشيرتهم ومن ثم على بعض أبناء القرية الآخرين , واستولوا على أراض كثيرة وكبيرة , ظنّاً منهم أنها ستكون عوناً لأبنائهم وأحفادهم بعدهم والإنسان فطر وجبل على حب الامتداد والبقاء عن الطريق الذرية , قتل الأخ الأكبر وهو يتشاجر مدافعاً عن الأرض وكان أشدهم بأساً وقوة وحمية , توفي الأخوان الباقيان ولكنهما خلفا بنتا لاغير فاستولت على أرض والدها .
كانت جميلة ، متمردة , متكبرة ، لم ترض بما قسم الله لها من مال وأرض ونسب شريف , فأخذت تتطلع للزواج من خارج العشيرة ولكن أفرادها لايرغبون وأرادوا كبح جماحها فلم يستطيعوا كبحها إلا بعد عناء شديد وحوادث ومشاكل وقعت بينهم , وبعد أن كـَثُرت الأقاويل في القرية بعضها مكشوف وأكثرها مختف.
وفي أحد الأيام دخل عليها بعض وجهاء عشيرتها لإرغامها على الزواج من أحدهم , اختلجت عيناها , وهي تدريهما ذات اليمين وذات الشمال وهي متفرسة في وجوه القوم ، ثم أردفت ذلك بنظرة فيها توسل دون ان تستطيع أن تنبس ببنت شفة ولم تستطع أن تتكلم بكلمة واحد وأرغمت وأذعنت لهم . 
فتزوجت أحد أفراد العشيرة البعداء في قرية أخرى , ومنت النفس لعل الله يرزقها بمولود ( ذكر ) تؤول إليه الأرض ,  وتحتمي به من سطوة أفراد العشيرة  , توفي عنها وهي لاتزال في العشرين من عمرها وهو في ريعان الشباب .
بقيت عدة سنوات , دون أن يتقدم إليها أحد برغم أن الجميع يخطب ودها ويطمع في مالها وجمالها معاً , ولكنهم متحفظين مخلفة أن يحدث لمن يتقدم إليها مكروه , قرر ( سعيد ) أن يتقدم للزواج منها , لأنه أحبها وأحبته , ومثل هذا الحب لايخفى إلا فترة قصيرة في مثل هذا المجتمع وشاع الخبر بين أهل القرية وأخذت الأصوات تعلو هنا وهناك محذرة له , ومعوقة , ومبالغة , ومشككة , ولكنه الحب فأراد أن يبين أن ما يقال عنها لا يعدو كونه أكاذيب فتزوجها ولكنه لم يستطيع السيطرة عليها وكبح تمردها ، وكان يقول عنها: إنها نمرة متمردة ، فطلقها بعد فترة قصيرة ، وتزوج من امرأة أخرى كان يقول عنها : إنها قطة أليفة لما رأى من تمرد الزوجة الأولى .
وها هو حمى المال والخوف على الأرض يسري بين افرد العشيرة ، أرادوا أن يزوجوها من الحاج محمد لما عرفوا من حبه إيَّاها منذ الطفولة ولكنها رفضت ذلك وقررت عدم اتخاذه زوجاً لها مهما حدث لدماثة خُلُقه ، ولكنه قانون العشيرة هذه المرة لابد أن يسري عليها , إنه الخوف والطمع معاً على أرض القبيلة أن تخرج من بين أيديهم إلى غيرهم , وكيف تضيع الأرض وقد نزفوا الدماء من أجلها .
 حاولت أن تتزوج من زوج من خارج العشيرة فمنعت , وزوجت من الحاج محمد رغماً عنها بعد أن قيدوا أيديها وأخذوها إلى دار الحاج محمد عنوة في أول الليل دون أن يكون أي شيء من مراسيم الزواج كانت بعض النسوة على طول الطريق يحاولن ان يلقين نظرة عليها وعلى ما يحدث من نوافذ دورهن وأبوابها وهي ترى هذه الحشود والجموع المدججة بالسلاح كأنهم ينتظرون عدواً أو معركة قادمة مع إحدى القبائل، قالت في نفسها : بل هي معركة معي وان لم أوافق على هذا الزواج سأفقد حياتي ثمناً لرفضي، سأتزوجه فترة من الزمن , ثم سأطلق منه بعد أن أُعييه وأملأ حياته نكداً وسأحيلها إلى جحيم , بعد أن أتجاوز عليه أمام الآخرين أكثر من مرة وسأجعله يفقد هيبته فينتصر لكرامته المهدورة ويطلقني .
ادخلوها إلى بين الحاج محمد وأغلقوا عليها باب إحدى الغرف وعبر النافذة الصغيرة المعلقة في أعلى الجدار أخذت تختلس النظر وترى بعض ما يدور خارج غرفتها من اجتماع العشيرة مع نسائها .
دخلت عليها ثلاث نسوة (خافت منهن ) كانت تظن إنهنَّ جييء بهنَّ لتأديبها فأحست بموجة من الرعب فلما تحدثت النسوة إليها وعرفت أنهنَّ جييء بهنَّ لغرض إقناعها اطمأنت إلى مصيرها وقامت النسوة بتهيئتها لعريسها تمَّ عقد القران دون رضاها ، وكان كثيراً ما يقال عن مثل هذه الزيجات إنها مسألة وقت وسوف ترضى المرأة المغصوبة وترضخ للأمر الواقع .
راح قلب الحاج محمد يدق بعنف كاد يخرج من بين جوانحه كلما تذكر انه لم يعد يفصله عن حبيبته سوى خطوات قليلة ، فرح ملأ القلب حتى كاد أن يقف من جرائه دمعت عيناه وهو يتخيلها عروساً متزينة تَنُثّ شذىً وعطراً , وقف على باب الغرفة تقدم للأمام خطوتين , دفع الباب ليدخل ثم عاد إلى الوراء وانطلق بمخيلته من جديد يحمل بيده عباءته وهو يحترق شوقاً للقاء المنتظر كأنه يريد أن يقتحم حصوناً منيعة ، بل هي أمنع من تلك الحصون كيف سيدخل عليها وقلبها رافض له منذ أكثر من خمسة عشر سنة .
دخل غرفة العرس بعد أن جمع ما تبقى من شجاعة متبعثرة في صدره هنا وهناك وهو يمسح وجهه بكوفيته من آثار العرق ، حدق بها بنظرة عارمة سلم عليها ولكن لامجيب وهو يقول : أخيراً تحقق الحلم وفزت بمن أحب لايهم كم مضى من الزمن ، ولكن المهم  أني فزت بك حدق في عينها فرأى الدموع تنسكب منها بغزارة وبرغم تلك الدموع رآهما أعذب ما يكون وأحلى ما يكون كأنهما بحيرتان عميقتان تفيضان حباً جمّاً، نظر إلى  وجهها وهو يرى الحزن يزيده جمالاً  وعذوبة وحلاوة وخطا نحوها وجلس أمامها كي يستمريء إحساساً لذيذاً أنها أصبحت له بعد كل هذا العناء وهاهو يلقي مراساته بعد صراع طويل مع الموج .
بعد سنتين من زواجها من الحاج محمد أنجبت له ولدا فرحت بعد عناء طويل من أجل إنجابه وزيجات لاقت فيها ما لاقت من الألم ، لعله يكون سنداً لها وعوناً تحتمي به من بطش ذوي القربى من أفراد العشيرة ويكون به خلاصها وكسر قيدها من هذا الزوج الثقيل ، هاهو ابن العشيرة يأتي والأرض لن تخرج منهم إلى غيرهم ، اطمأن أفراد العشيرة ، وسُرّوا كثيراً بقدومه انه الأمل الذي انتظرته أكثر من سبعة عشر عاماً فأخذت بالبكاء والدموع تنسكب من عينيها هل هي دموع الفرح بقدومه ؟ أم دموع الحزن على أمل وحب ضائع  ؟  أم دموع الأسى على فقد الأب والعم ؟ .
زوجته بسن مبكرة قبل أن يساق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية لعله ينجب لها ولداً تقر عينها به ، أنجبت زوجته بنتاً ، أحذت تصرخ وتقول يالشؤمي يابني ويالحظي وحظك العاثر ياولدي ، ونثرت شعرها وشقت جيبها ولطمت خدها وكأنها فقدت عزيزاً على قلبها وليس ولادة مولود جديد ، لم يستطع أحد إيقافها أو الاقتراب منها لأن الجميع مدرك ما تعانيه وما عانته طوال السنوات الماضية وماقسته من ظلم وتدخل سافر في شؤونها ، كانت تحرص على أن تنجب ذكرً ولم تنجبه إلا بعد زيجات متعددة ، لذلك كانت تحرص أن ينجب ولدها ذكراً كي يكون عوناً وسنداً له ضد هؤلاء القوم وها هو ولدها ينجب بنتاً ، ولكن الله تعالى لم يرزقه به .
 التحق الولد بالخدمة الإلزامية وسيق إلى جبهات القتال ليفقد في إحدى المعارك في الحرب العراقية الإيرانية وها هي مشكلة الأرض تعود من جديد ، بنت معها تلك الأرض ولا ترغب بأحد من أفراد العشيرة ، وكأن الزمن يعود بدورته من جديد ، وهاهم أفراد العشيرة ينظرون إليها وهي تكبر أمام أنظارهم وهاهي أصبحت شابة ، فاتنة ، جميلة تَـنُثّ عطراً كما كانت جدتها ، تتحداهم بحبها من أحد أبناء القرية ، فأخذوا يعرضون عليها الزواج من شاب تختاره من عشيرتهم ولكنها لا ترغب علها تحظى بمن تحب ، كانوا يظنون أنهم يستطيعون إرغامها كما فعلوا مع جدتها من قبل ، ولكنهم أخطئوا بتصورهم هذا إنها ليست وحيدة كحال جدتها من قبل التي لم تجد لها مؤازراً أو مناصراً ، إن الجدة اليوم معها ، وهي ترى أن الأحداث تعاد من جديد وكأنها هي المقصودة وليست الحفيدة فانتفضت عليهم بما لديها من علاقات ومال الذي استمالت به ذمم بعضهم فوجدت لها ملاذاً ونصيراً فانقسمت العشيرة على نفسها ، وأودعت الضعفاء منهم السجن لترهب الأقوياء والمتـنفذين فيها ، ولم يخرجوا منه إلا بعد أن تعهدوا إمام القضاء أن لا شأن لهم بها ، فزوجتها من حبيبها ، وهكذا ذهبت الأرض إلى هذا الشاب ، ولم يفلح سعي العشيرة على مدى أكثر من خمسين سنة بالحفاظ عليها ، ولم تفلح كل حيلهم وخططهم في منع ضياعها ، ولا حتى إنجاب الولد في الاحتفاظ بها وهاهي الأرض آلت إلى غيرهم إلى رجل لايمت لهم بصلة .
* * *



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق