الجمعة، 8 يونيو 2012

المرأة الصابرة


المرأة الصابرة
كثيرة هي الزيجات في القرى والأرياف التي تظلم فيها البنت فلا تستطيع أن تبدي رأياً  في اختيار زوجها , أو أن تكون بديلة لأخيها , فتاة في مقتبل عمرها جميلة , تتمتع بقوام جميل وبنية قوية, قام أبوها بتبديلها زوجة لابنه في قرية أُخرى (قريتنا) في بيت مكون من الزوج وأُمه وثلاث من الأخوات اللاتي يتحكمن في إدارة المنزل, كانت في هذا البيت كالأسيرة , لا تستطيع أن تأكل إلا بإذن أو تنام إلا بإذن , كانت تلاقي منهن أشدّ المعاناة والقسوة والغلظة في التعامل أو الاستهانة بكل مشاعرها .
 كانت تستيقظ مع بزوغ الفجر تذهب إلى الحقل لتعمل فيه إلى المساء ثم تعود لتقضي كل أعمال المنزل ولا تستطيع النوم إلا في ساعة متأخرة ويكون جزاؤها بعد كل هذا العناء الضرب والإهانة من قبل الزوج لأنه يسمع كل ما تتكلم به أخواته ويلبي ما يطلبنه منه , فتقوم بحمل بعض ملابسها لتخرج إلى خارج القرية غاضبة هاربة ثم تعود إليه من جديد مخافة أن تلاقي الإهانة من أخيها , أو أن تطلق زوجة أخيها بجريرتها , لا تجد لها في هذا البيت نصيراً أو مؤازراً سوى العم الذي لايؤبه له في هذا البيت التي تسلطت النساء فيه على الرجال , تحملت كل ظلم الحموات , قام بهجرها وتركها في غرفة طينية ضيقة تكاد تسقط على رأسها بعد أن سحب منها أبنائها الثلاثة , عانت من الحياة وشظف العيش لا معيل لها ، أخذت تعمل في حقول القرية بأُجرة كي تعتاش منها فتلقى بعض الصدقات من قبل أهل القرية , لأنها كانت ترقي الأطفال والنساء .
 أخذ الأبناء يكبرون بعيداً عنها , ولكنهم أمام ناظريها , وهي ترقبهم عن كثب , ولكنها لا تستطيع أن تضم أحدهم إلى صدرها , فإذا ما مرض أحدهم هرعت إليه لتحفف من آلامه ومعاناته , وتضمد له جراحه , هي الوحدة القاسية تتقلب في الليل على فراشها وهي تبكي , على ظلم الزوج , وعدم مبالات الأب والأخ على بعد الأبناء عنها , تبيع البيض أو عجل لديها لتجمع النقود وتقوم بتخبئتها  في سقف الغرفة أو في إحدى الوسائد وربما تنسى أين وضعته , فلما كبر الأبناء أخذوا يترددون عليها خلسة عن أعين عماتهم وأبيهم , فتشتري لهم الملابس في الخفاء , أو تعطيهم بعض المبالغ النقدية ولاتعمل لنفسها أكلة لذيذة إلا ودعتهم إليها, أُم تحبُ أبنائها وزوجها كذلك  رغم ظلمه لها ، لا ترضى أن يتكلم عليهم أحد أمامها , عانت من الفاقة والعوز والحرمان والمرض برغم وجودهم .
لم تعد تستطيع السير بقامة منتصبة أنحنى ظهرها من العمل وحمل الأثقال على رأسها فضلاً عن هموم وأحزان ، ملابسها رثة مهلهلة ، شمر ثوبها من الخلف وانطوى والتف عدة لفات لكثرة ما استعمل .
في أحد الأيام قام زوجها بضربها بلبنة طين على رأسها كسر لها جمجمتها ، وكأنه يريد أن يعيقها عن العمل في حقول القرية ، لم تستطع حمل شيء على رأسها بعد هذه الحادثة وفي أيام الشتاء الباردة كان يؤلمها جداً.

أين مالها من إرث أبيها ؟ لم تحصل منه على شيء , وفي أحد الأيام طلبت إدارة المدرسة من ابنها الأصغر مبلغاً من المال أسوة بأقرانه , لأنهم قاموا بإنشاء صف جديد في المدرسة , ولكن أباه رفض إعطاءه وقال له : دع المدرسة , هرع إلى أُمه لتقوم بإعطائه إيّاه وحثته على عدم ترك دراسته , والتمسك بها ومواصلة دراسته ووعدته انها ستقدم له كل معونة يحتاجها ، حمل الولد أغراضه وحاجياته وكتبه وحطّ رحاله عند أُمه , حاول الأب أن يعيده إلى بيته ولكن الابن رفض وبعد مناشدة منها لبعض الوجهاء للتدخل , رضخ الأب لمطلبها وترك الولد عندها نتيجة ضغط الوجهاء .
مرض الابن الأوسط الذي كان يرعى الأغنام لأبيه بمرض التايفوائيد نتيجة تعرضه لأشعة الشمس في فصل الصيف , لم يقم الأب بمعالجته هرعت إليه وحملته إلى المستشفى ليتلقى العلاج فيه ، وبعد أن شافاه الله منه عاد معها إلى بيتها ورفض العودة إلى دار أبيه , وتكرر المشهد من جديد ورضخ الأب لمطلب أهل القرية من جديد , وقامت بتزويجه من ابنت أخيها .
 أما الابن الأكبر فقام أبوه بطرده بعد أن أكمل دراسته الجامعية , لتقوم بجمع رواتبه له دون أن تأخذ منه شيئاً فزوجته وذهب بعيداً عنها من جديد , ليكمل الإبن الأصغر دراسته الجامعية .
أخذت زوجة ابنها وبنت أخيها تقسو عليها كثيراً وكأن قدر هذه المرأة أن يكون الظلم قريناً لها , وكأن حياتها لا تستقيم بدونه وبعد ثلاث سنوات من هذا الظلم , قرر أن يعزل معيشته عنها في بيت آخر .
 جاء إلى البيت ليحمل كل الأمتعة ولم يترك لها شيئاً سوى بعض الملابس القديمة ، حمل كل الأجهزة الكهربائية التي اشترتها لها ولأبنائها , حاولت جاهدة أن لا يذهب بعيداً عنها ولكن لا مجيب لها , توسلت به أن يبقي لها بعض الأثاث لأخيه الأصغر ولكنه رفض ذلك , لأنه ورث الظلم عن أبيه وعماته وجدته وخاله , جلست في البيت تبكي على حال هذا الولد والابن الأكبر يهدئ من روعها والأصغر يبكي لبكائها .
 شعرت بضيق في صدرها وكأن سقف الغرفة قد أنطبق على أرضها , وشعرت بعطش شديد , عاد الإبن الأوسط ليقوم بنزع الأسلاك الكهربائية من غرفتها , وهي تنظر إليه ارتفع ضغط الدم الذي كانت تعاني منه مع مرض السكري فأخذت تصرخ  من الألم , عاد إليها الأبناء , قالت : أُريد ماءًا أشرب فلما سقاها الإبن الأكبر فاضت روحها إلى بارئها تعالى ،  انكب عليها الأبناء يبكون عليها بكاءاً شديداً وعلا بكاء النسوة, وبكى عليها جميع أهل القرية .
بعد الوفاة هرع الإبن الأوسط والأصغر لنبش الأغراض وتفتيش الوسائد يبحثون عن مالها وذهبها المخبأ فتقاسموه بينهم أخذ الإبن الأكبر مالها ليقوم بوضعه كصدقة جارية في إحدى المساجد, وفي كل عيد يزور قبرها ويبكي عنده , هل هو الإحساس بالذنب ؟ أم لفقد مؤازراً وسنداً وعونًا , وصدراً حنوناً وقلباً رحيماً ، ماتت أمام ناظريه وفاضت روحها بين يديه وهو يتأمل ما حدث لها ويقول : كيف لي تركتها كل هذه السنوات تقاسي ماتقاسيه , كنت أُتابع أبي وعماتي وزوجته .
عاشت هذه المرأة الصابرة التقية مظلومة من قبل الأب والأخ والزوج وكذلك الأبناء الذين ورثوا الظلم عن أبيهم وتناسوا كل الحقوق المفروضة عليهم تجاه أمهم .


* * *










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق